الأدب و الأدباء

دراسة نقدية لرواية ” أدراج الإسكافية ” فداء الحديد

 

 

متابعة /لطيفة محمد حسيب القاضي
بقلم/سليم النجار
ما حاولت فعله الكاتبة فداء الحديد هو استرجاع الزمن ؛ وهي محاولة مستحلية عملياً ؛ اللّهمّ بالكلمات ؛ وبعض المشاعر ؛ فهل يمكن فعلاً استرجاع ما فتَر وفات ؟ لا أحد يملك الجواب ؛ أو سيُمعن هروباً منه بمواصلة الحفر فيه ؛ وهذا ما سعت اليه عموماً الكاتبة من وراء كتابتها لرواية ” أدراج الإسكافية ” . لستُ وحدها ؛ هو مسعى معشر الحالمين ؛ لا المتكسّبين ؛ المتصنَّعين ؛ أحشاؤهم جوفاءُ ؛ وبلا جرح أحد ؛ أقلّه خدْشٌ في الروح . فالحقيقة غير ذلك ؛ أوْ لست موقنة الكاتبة من شيء ؛ لتحسم هل هي تتجدّد أم تَبلى ؟ . ما من شكّ أن اكتشاف العالم غنيّ للمعرفة وسَعة للنفس . هو أفق منفتح للخيال ؛ وإن رسخَ في ذهن المتلقي تحمل ما تجنبه ؛ لتجعله يرسُب في نهاية المطاف في نفس المتلقي ؛ وتنخلَه في غربال دقيق ؛ ليمُرّ الجوهريّ؛ الذي قلّما تجد ؛ وما تكفّ تعيد البحث المضُنيَّ مثل سيزيف مع صخرته الأسطورية ؛ فالكاتبة كانت في سردها وأصرت أيضاً كما قال أبو تمام ” ولم تعطني الأيّام نوماً مُسَكَّنا / ألذّبه إلابنوم مشرّد ” .
وهكذا فعلت الكاتبة : ” سعيد .. الاسم الذي تركه لي والدي ؛ الأثر الوحيد الذي أعرفه من فرحي وسعادتي ؛ هو اسم فقط ؟ ” ص ٩ ” .
وممّا لا شك فيه أنّ الكاتبة لجأت إلى فن التصوير في الرواية كتقنية لتوظيف هذه التقنية في إبصال فكرتها ؛ وهذا التوظيف ليس بجديد في الثقافة العربية ؛ خاصة إذا عرفنا أنّ لفن التصوير الإسلاميّ خصائص تميزه عن خصائص فن التصوير اليونانيّ على سبيل المثال أو الرماونيّ ؛ فبينما يعمل المصور الروماني او اليوناني على محاولة إضفاء الواقعيّة في رسمه حتى انّه ودّ لو تنطق شخوص لوحته وتتحرك ؛ نجد المصور المسلم يقوم بالعكس تماما وكانه لايريدها ان تكون واقعيّة ؛ لا يريد ان يضاهي خلق الله في شيء – طبعا إذا تعلق الأمر بشخوص آدميّة – ولكن يختلف الأمر إذا ارتبط بتصوير النبات خاصة في المخطوطات العلميّة ؛ إذ نجد مثلا في كتاب ( الحشاش وخواص العقاقير لديقوسقر يدرس ؛ وهو مخطوط عربي نقل إلى اليونانيّة ) لوحة أبدع فيها مصورها المسلم أيّما إبداع إذ جسد نبات الكرمة بأدق تفاصيلها من جذوره إلى أوراقة مسعملا الوانا طبيعيّة تجعل الرائي مندهشا امام براعة هذا الفنان في نقل الطبيعة والواقع إلى الورق ؛ وليس اجمل من ذلك الوصف الذي قدمته الكاتبة في روايتها ” أدرج الإسكافية ” ؛ حين وصفت المكان بهذه الروح الإبداعية ؛ ” كان للمحلات والبيوت في شارع الحمّام نظام جميل في بنائها المختلف عن غيره من بقية المناطق ؛ جميع المنازل في الطابق العلوي في داخلها العقود أو كما كان جدّي يقول عنها إنّها القناطر ؛ والتي هي عبارة عن أقواس داخل المنزل ؛ وسقفها مرتفع قد يصل في بعض المنازل إلى ارتفاع ثلاثة أمتار ؛ وقد يكون في كل غرفة قوس كبير ؛ وفي مدخل الغرفة قوس أخر يتقاطع معه ليتقاطع مع قوس الغرفة الأخرى ؛ فتعطي للمنزل شكل القناطر التي هي مجموعة من الأقواس ” العقود المتقاطعة ” داخل المنزل . ص١٦ ” .
وكما تتبار الحكايةُ في رواية ” أدراج الإسكافية ” ؛ حَوْل واقع مليءٍ بالتردُّدت . ورغم ذلك تبدو الأحداث الحكائية منظمةً ؛ مستثمرةً الكثير من الإيهام في بناء الحكاية وتشكيل تصوّرها للعالم الذي يظل في رواية ” أدراج الإسكافية ” مقترناً بتحوّلات المكان وتحوُّلات المصائر ايضاً ؛ ( دخلت الدبابات العسكرية المدينة وتمركزت في دوّار المحباصية وبدأت بإطلاق القذائف الحيّة باتجاهنا ؛ وبدا إطلاق النار من كل حدب وصوب سواء الرصاص الحي أو الرصاص المطاطي . ص٨١ ) .
وكأنّ هذه الرواية توّد بذلك الانفلات من تمزّقات هذا الواقع . فتحى التأويلات ( عبر المشاهدات ) التي كانت فداء الحديد تقُيّدها ضمن رؤيتها المضّن في روايتها ؛ لم تسْتطع ان تخرجه من واقع الخيبة والتردُّد ؛ أي لم تستطيع ان تخرجه من واقع الحصار والهروب كما هو مُثْبتٌ في الرواية ؛ : ( الغبار يغطّي كل شيء في البيت ؛ كأنّه مهجور منذ سنوات طوال . ص١٤٧) . ومعنى هذا أنّ فداء لم تكن ؛ في بداية الأمر ؛ تعي الصورة النهائية التي تنسج خيوط ذلك الواقع ؛ أسرة سعيد ؛ وكأنها تقول ” المفضّل غائب غبيةً الذي لا عودة منها ” ؛ : ( عام حزن جديد يجعل سعادتي تنتفض على قلبي وتعيد إليه اليأس من جديد ؛ وفاة أبي حرقا ؛ وفاة زوجة عمي مرضا ؛ ولم يكتف القدر بهذا ؛ وإنما زاد حجم التعاسة بمكالمة واتصال مت أمي تبلّبغ عمي بزواجها . ص ٣١) .
إنّ ما سبق عرضه من معطيات يخصصّ ؛ إذن ؛ جانباً من أفق تخييل الحكاية في رواية ” أدراج الإسكافية ” لفداء الحديد ؛ وهو افق يراهن ايضاً على جدوى مناطق السخرية : سخرية متحررة من أيّ وعيٍ مسبّق بشكل للكتابة ؛ وسخرية قادرة على تحوّلات الواقع ومواضعات المجتمع ؛ مثلما هي قادرة على نقد المواقف والسلوكيات والتبدّلات ؛ سخرية ذات بُعْد معرفي تنسجها ذاكرةُ فداء الحديد من اجل فهم ماجرى ؛ لابهدف البحث عن الجواب المرجع ؛ وإنما طرح التحوّل الذي يمكّن الذاكرةَ من تجاوز أيّ نسيْان يسلبها هويتها وصلتها بالواقع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق