الأدب و الأدباء

قصة الأسبوع “شبيهي النصوح”

تأليف: وحيد القرشي

الأمس عدت إلى بيتي متعبا منهكا فقالت لي زوجتي بدل ثيابك وارتاح قليلا حتي ينضج الطعام ,وبالفعل ذهبت إلى حجرتي وبدلت ثيابي وتمددت على سريري وأغمضت عيني وأستغرقت في النوم,ولم أفتح عيني إلا على صوت المؤذن يؤذن لصلاة العصر، فخرجت من حجرتي متوجها إلى المطبخ فوجدت زوجتي منهمكة في إعداد المائدة والاكلات المصنفة بالكتب ,جلست إلى المائدة وسألتها ماذا طبختي لنا اليوم يا حبيبة قلبي ,أردت أن اضحك معها فقد غابت لحظات نومي وأشتقت لمداعبتها,ألا أنها لم ترد , فعاودت السؤال مرة ثانية وثالثة فتفاجأت انها لم ترد , فكانت دهشتي أسبق من غضبي وتمالكت أعصابي حتي أفهم ما بها,أذ أنها المرة الأولى وعلى مدى عشرين عاماً من حياتي الزوجية أخاطب فيها زوجتي ولا تعيرني أي اهتمام,التفت فإذا بابني يدخل المطبخ, فطلبت منه إحضار زجاجة ماء من الثلاجة, فكان جوابه مماثلا لجواب أمه الصمت والسكوت وعدم الرد , فازداد تعجبي منه ذلك الشاب الدمث اللطيف الذي يضرب به المثل في الأدب وحسن الخلق لماذا لم يرد عليه وما الذي حدث مع تلك الأسرة الحاضرة الغائبة ,فهممت بالخروج من المطبخ فإذ بزوجتي تقول لأبني, اذهب وأيقظ والدك لتناول الغداء, هنا بلغ مني الذهول مبلغا ,هل وصل الجنون الي مداه.

 اتجه إبني إلى حجرتي ليوقظني , فصرخت فيه بأعلي صوتي أنا هنا, فلم يلتفت إلي ومضى مسرعاً وتركني غارقاً في ذهولي ,ياه لسخرية القدر ماذا حدث أنه الجنون بعينه,وبعد دقيقة أو يزيد عاد وقد ارتسم الرعب على وجهه فقالت له أمه  هل أيقظت والدك ,فتلعثم قليلا ثم قال حاولت إيقاظه مرارا وتكرارا لكنه لم يجب , فازدادت دهشتي, ماذا يقول هذا الولد المجنون أنا اقف أمامه وبجواره ,فدخلت زوجتي مسرعة إلى حجرتي وخلفها الأولاد مذعورين فتبعتهم لأجدها تحاول إيقاظ شخص آخر في سريري يشبهني تماماً, ويلبس نفس ثيابي وينامي علي طريقتي ,من هذا الشخص هل هذا عفريت ما الذي حدث في ذلك البيت وما إن يأست من إيقاظه حتى بدأت عيناها تظرف بالدموع وبدأ أولادي في البكاء والنحيب ومناداة ذلك الرجل الملقى على فراشي والتعلق بثيابه أملا في الرد مرددين بأعلي صوت لهم بابا بابا قوم يا بابا وأنا لا أصدق ما يجري حولي يا إلهي ما الذي يحدث , من هذا الرجل الذي هو نسخة مني  لماذا لا يسمعني أحد , لماذا لا يراني أحد ,رغم أني أسمع وأري الجميع ,خرج ابني مسرعا ليعود بعد قليل ومعه والدي ووالدتي وإخوتي وانهمر الجميع في البكاء ووالدتي تعانق ذلك الرجل النائم مكاني شبيهي وتبكي بكاءا حارا، فذهبت إليها محاولا لمسها والحديث معها وإفهامها أني مازلت حيا بجوارها إلا أنه حيل بيني وبين ما أردت ,فالتفت إلى والدي وإلى إخوتي محاولا إسماعهم صوتي ولكن دون جدوى .

ذهب إخوتي للإعداد للجنازة وخر والدي على الكرسي يبكي وأنا في ذهول تام وإحباط شديد من هول ذلك الموقف والكابوس المزعج الذي أحاول الاستيقاظ منه ,جاء المغسل وبدأ في تغسيل ذاك الجسد الملقى على فراشي بمساعدة أبنائي ولفه بالكفن ووضعه في التابوت,توافد الأصدقاء والأحباب والجيران إلى البيت لتشيع الجنازة ,والكل يعانق والدي المنهار ويعزون إخوتي وأبنائي ويدعون لي بالرحمة والمغفرة ولهم بالصبر والسلوان.

ثم حملوا التابوت الخشبي إلى المسجد ليصلوا عليه صلاة الجنازة , وخلا المنزل إلا من النساء لابسات الأسود ممسكين المناديل بأيديهم , فخرجت مسرعاً خلف الجنازة المتجهة إلى المسجد حيث اجتمع الجيران والأصدقاء واصطفوا خلف الإمام ليصلوا علي ,الالاف خرجت لتشيع جنازتي و الصلاة عليه ,هل انا محبوب لهذه الدرجة,سبحانك يا ربي .

 

ووسط هذا الزحام الشديد وجدتني أخترق الصفوف بيسر وسهولة دون أن ألمس أحدا,كبر الإمام التكبيرة الأولى وأنا أصرخ فيهم يا أهلي يا جيراني على من تصلون أنا ما زالت حيا وعلي قيد الحياة ,انا بجواركم أسمعوني ,أنا معكم ولكن لا تشعرون أناديكم ولكن لا تسمعون بين أيديكم ولكن لاتبصرون فلمااستيئست منهم تركتهم يصلون وتوجهت إلى ذلك الصندوق وكشفت الغطاء أنظر إلى ذلك النائم فيه وما إن كشفت عن وجهه حتى فتح عينيه ونظر إلي وقال لي الآن انتهى دوري  أنا إلى الفناء أما أنت فإلى البقاء ثم قال لازمتك ما يزيد عن أربعين عاما واليوم مآلي ألى التراب ومآلك إلى الحساب ولم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقى في التابوت الخشبي فاقدا السيطرة على كل شئ, أطرافي لم تعد تستيجب لي. لم أعد أرى شيئاً, لم أعد أقوى على الحراك, أحاول الكلام فلا أستطيع, فقد حركتي وأتزاني وأختفي كل شئ من حولي.

فقط أسمع تكبيرات الإمام ثم غمغمات المشيعين ثم صوت التراب ينهال علي ومن كل مكان ثم قرع النعال مبتعدة عن قبري ومكان دفني أدركت حينها أنها النهاية ,ولربما البداية بداية النهاية هكذا بكل بساطة ودون مقدمات لقد فرقت الحياة فجأة دون موعد وترتيب مازال لدي الكثير من المواعيد مازال لدي الكثير من الأشغال مازال لدي الكثير من الديون التي لم أسددها ولم أوصي أحد بسدادها أريد أن أوصي بفعل خير لطالما أجلته ويا ليتني كنت فعلته في حينه

أريد أن أنهى عن منكر لطالما رأيته أريد ان افعل الخير وأكثر منه وشيئا فشيئا بدأت أختنق ثم سمعت أصوات أقدام متجهة إلي ,يا ويلتى سيبدأ الحساب ,ولم أعمل صالحا أقابل به ربي , أنهما منكر ونكير في طريقهما إلي, هذا ما كان يقال لي في الدنيا, وبقيت أصرخ في قبري ,رب ارجعونِ لعلي ولعلي  رب ارجعونِ رب ارجعونِ لعلي أعمل صالحا فيما تركت فلا أسمع صدى لدعائي سوى ولا أحد يرد ,كلا كلا كلا, ولازلت على هذه الحال حتي تدفق إلى مسامعي صوت رقيق يهمس في أذني  بابا, بابا, الغدا يا بابا ففتحت عيني لأجد ابنتي الجميلة وفلذة كبدي مبتسمة كعادتها في وجهي و تقول لي ” يلا يا بابا قبل الأكل ما يبرد”احتضنتها بلهفة وقبلت جبينها ثم تركتها تذهب ,وجلست في فراشي برهة وأنا أشعر بإرهاق شديد وأطرافي ترتعد وجسدي يتصبب عرقا ,وجلست أتحدث وأخاطب نفسي قائلا ها يا نفس قد عدتي, فأريني أي صالح ستعملين قبل أن يأتي يوم تسألين فيه الرجعى فلا يستجاب لكِ فهل من معتبر.

 

الساعة الان السادسة,  ساعة ونصف وتبدأ مباراة الاهلي و الترجي التونسي ,لا لا لا نصف ساعة ويؤذن لصلاة المغرب أسرع وأتؤضأ لأصلي صلاة العصر,سارعي يا نفس بالخيرات وعمل الصالحات ” وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق