الحرب والسلام

بقلم د/ شيرين العدوي

في سنة 1972 م لم أكن أتعدى4 سنوات عندما جاء إلى منزلنا الواقع “بتوريل” بمدينة المنصورة شاب يافع من أبناء القرية القريبة مسقط رأس أبي. كنت أحب جدا أقاربي. وهذا الشاب بالذات كان مضرب المثل في الخلق، فالجميع يقدره وأنا بالأخص كنت متعلقة به لسماحته وحديثه الرقيق معي. الكل في القرية يحب بيتنا ويحب الوالدة لتفتحها وثقافتها. منزلها العامر بالحب محط القاصي والداني . في هذا اليوم الذي لن أنساه أبدا ما حييت دق جرس الباب ففتحت لأجد ابن عمي بملابسه العسكرية وطوله الفارع يقف أمامي وعيونه ممتلئة بالدموع والإصرار والتحدي. لم أفسر وقتها تلك النظرة لكنها لم تبرحني، سأل بلهفة عن أمي. فنحيت نفسي جانبا من أمام الباب لإدخاله، وتهلل وجهي لرؤيته منادية على أمي. علي غير عادته لم يحادثني وهو يلح أن أنطق بعض الكلمات الفرنسية الجديدة التي تعلمتها ليتندر علي مبتسما في وجهي. كان هدفه الوالدة. لم يجلس، بل ظل واقفا في منتصف بهو المنزل على قلق كأنه يقف على نار في انتظار أمي. عندما وقفت أمامه كان الحوار:
– وصيتك أمي فهي أرملة .
– هل سنحارب هذه المرة؟
– لا أعرف، لكن تم استدعاء كل شباب القرية .
انفجرت دموع أمي، وانحنى ابن عمي يقبل يديها قائلا: (هتوحشوني). ثم خلع ساعته، وأعطاها إياها وأشياء أخرى ثمينة برأيه كراديو صغير “ترانزيستور” ومبلغ من المال وأوراق. انسحب كنسمة وأغلق الباب وأنا متسمرة في مكاني. مع صوت الباب انخلع قلبي . كان قلبي يصرخ ودموعي تأبى أن تنهمر.بعد عدة أيام تكرر في منزلنا المشهد بحذافيره مع بعض الفتيان من أبناء القرية. وجاءت لبيتنا جارتنا الجميلة “أم عيد” المسيحية بعيونها الصغيرة الزرقاء تملؤها نظرة استبشار وانكسار قائلة : ذهب عيد للجبهة. انفجرت هي وأمي باكيتين .
في سنة 1973 م لم يغلق المذياع و التليفزيون طوال العام في بيتنا كنا نتلمس الأخبار من هنا وهناك ولا نحصل على معلومة واحدة. لا نعرف شيئا عمن ذهبوا ولم يعودا. نلتف حول أحاديث أبي وأمي الشيقة عن البطولات والحروب في الدول الأجنبية وعما يقوله العدو.
في يوم 10 رمضان من نفس السنة. الجميع صائم أمي منهمكة مع الشغالات في تنظيف المنزل تأمر وتنهى وتشارك بيدها رأفة ورحمة بهن. لم أشاهد منزلنا بهذا الرونق وقتها وكأنه يولد من جديد. فجأة وقبل الإفطار زارنا أحد أبناء القرية دخل وكأنه يرقص قائلا : عبرنا يا عمي عبرنا. لم يصدق أبي غير المحطة ليتأكد. البيان الوقور يؤكد هذا. للحظات عم الصمت مشككا أن يكون الخبر زائفا كما كان يحدث في حرب 1967م؛ لكن مع أول جندي عاد للأهل من أرض المعركة بدأ الجميع يصدق النصر. بعد الحرب أعلنت جولدا مائير أن خسائر إسرائيل بلغت 302 طائرة، و 600 دبابة، 400 مدرعة ، 25 طائرة هيليكوبتر، 23 قطعة بحرية ، و 300 مليار دولار، 10000 قتيل وجريح . عاد الجميع وظللت عدة سنوات أنتظر عودة ابن عمي وعيد فلا يعودان ومثلهما الآلاف. كلما نظرت لأشيائه استوقفتني عيون أم عيد الزرقاء المنكسرة المستبشرة وتذكرت ضحكته الآسرة. في سنة 2020 أفتح جهازا يدعى “الكمبيوتر” وأبلكيشن يدعى “الفيس بوك” لأجد من يقول: هل تتخيلون أن حرب أكتوبرتستحق كل هذه الضجة، وهل تصدقون أننا حاربنا وانتصرنا؟ وهنا يطل السؤال :هل توقفت الحرب ضدنا؟ وهل مازلتم تذكرون أبطالنا البسطاء؟!

إغلاق