الأدب و الأدباء

ودّة للأديب محمود توفيق

 

متابعة: حنان الشيمي

وعندما كانت تفتحُ الباب الخشبي الضّخم بالمفتاح المعدنيّ الضّخم الأثري، وتخرج إلى الشّارع يعلوها كسل العراقة، تفاجأ بالزّحام كلّ مرّة، كخطر يهدّد انطواءها المشحون بالقلق، وتفاجأ كغزالةٍ بهذه النّظرات النّهمة التي لا زالت تطاردها من البعض في الطريق, وتربكُ خطواتها.. 

تلك النّظرات التي ازدادتْ وقاحتُها من بعد موْت والديها، كانوا يتثاءبون في شهوتِهم المريضة تثاؤبَ الذّئاب، حتى أصابها شكّ في نفسها من شدّة يقينِ هؤلاء الجوْعى في أنّه يليق بها أنْ تقع، كأنّهم رأوا في ظلالِ رموشها الكثيفة إثمًا لم تأثمْه بَعْد.

ودّة

الزحف
تركني الشهداء بين هذا العدد المرعب من المراهقين الفارغين الذين لا يجدون ما يشغلهم، والذين شاهدت كثيرين منهم يجرون في شَبَقٍ حيواني في يوم الفوضى والنَّهب؛ ليلحقوا بهذا الفارس البربري، مفتول العضلات، المنطلق بدراجته الهوائية وأمامه على الدراجة امرأة شقراء خطَفها، لا يسترها شيءٌ على الإطلاق، عارية تمامًا، كانوا سُعداء ومُشجِّعين، ويرغبون في سؤاله على الطريقة التي خطَف بها هذه من حمَّام بيتها، وهل من مزيدٍ من الشَّقراوات؟ وعندما أدركوه لاهثين صُدِموا، للأسف كانت مجرد (مانيكان) مما يُستخدم لعَرْض الملابس في واجهات المعارض!

ودة
وأتَمَّ حملة النظافة بحلْق لِحيته النابتة، وتهذيب شاربه، وأغلق الحمام عليه وعلى الوابور وصفيحة الماء المغلي، واندمَج في حمام ساخن مُمتد، يدعك جسده الضخم بلوف النخيل سعيدًا، ويَفرُك ثندوتيه المُترهلتين بحجمهما وقَوامهما المائل للأنوثة الذي آل إليه صدر رياضي كان ناهضًا يومًا ما، مُتلذذًا بانهمار الماء الساخن على بدنه، وقد فاحت في الحمام رائحة بدنه الجسيم كرائحة فرس النهر في الخلجان الدافئة، غاب في حنان الدفء والبخار، الدفء الذي قال عنه أحد المعتقلين: إنه خير من الدنيا كلها وأثمن ما في الحياة، ألْقَوا به لَيْلَتَئذٍ عاريًا على الأرضية الأسمنتية المُبتلة، التي تُوشك أن تَكتسب طبقة رقيقة من الثلج مع انخفاض درجة الحرارة إلى الصفر، قال له في الصبح وهو في حالة صحية مُزرية وراقد على جَنبه، وفي عَرائه الذي اعتاد عليه اعتياد الأطفال، ولم يَعُد يداري سَوْءَته، إن البرد اختلى به طيلة الليل، كان يَلعق عصعوصه بلسانه المبلول، بإيقاع بطيء بطيء، ونَهَمٍ، وطرَبٍ، وصبْرٍ، واستفزازٍ، وإلى ما لا نهاية، وإن شيئًا زاحفًا لصِق بعظام مقعدته وأسفل ظهره، يُبرد هذه العظام، يَقرِضها، يَنخِرها، وإنه لا يتمنَّى الآن نعمةً إلا راحة الموت الدافئ، ويَشتهي أن يسيل الصلصال الذي خُلِق منه، يسيل على الأرضية الأسمنتية؛ ليَكسَحه السجَّان، فينساب في البلّاعة الصغيرة، مُتَّحدًا بماء الصرف الأكثر دفئًا.
المخبر_في_فتاقه

يقول الكاتب محمود توفيق عن  إصداره الجديد

مجموعتي القصصية التي أعتبرها الأولى، وأقدم نفسي بها لقرائي كقصَّاص، وفيها الجديد الذي لم تقرؤوه أبدًا يجاور ما سبق أن عرضته عليكم.. وقد فوجئت بعد أن تمت المجموعة بأن هناك ما كان يلح عليَّ عبرت عنه في عدة شخصيات في قصص متفرقة، وما كنت أحسب حساب هذا أبدًا، لقد اكتشفت وجود علاقة بين قصص باعدت بين كتابتها المواسم، وإذ بها تأتي لتعبر عن هؤلاء الذين يجدون صعوبة في التعامل مع قسوة الحياة، الذين يريدون الخروج من حفرة وجدوا أنفسهم فيها. أما ودة، وهو اسم قصة من قصص المجموعة، واسم المجموعة كلها، فقد اخترته لبطلة أيضًا وجدت نفسها أسيرة الظروف، يحاصرها عالم لا تنتمي إليه، وقد اخترت اسمها غريبًا ليعبر عن عزلتها، ورقيقًا ليعبر عن رقة وضعف هؤلاء الذين قست عليهم الحياة وأخذت تنكل بهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق