الأدب و الأدباء

بسم الله نبدأ الحلقه رقم(1) من روايه فاطمه 

 

 

 


..الناشره/رانيا يوسف
………………………………….
أنها نوبتها الليلية في الرعاية الفائقة, وكما اعتادت في ذلك القسم فإن كل شئ هادئ ليلا, لا صخب ولا أصوات ولا أحداث هامة, الأجهزة تعمل باستقرار والمرضى نائمون .
صورة مثالية لمستشفي خاص صاحبها ومديرها ذو شخصية خاصة جدا وهيبة فظيعة فالنظام والدقة لديه كل شيء, ومن يتعامل معه يفرض عليه أسلوبه المنظم الصارم فرضا لذلك فالخطأ نادر وكل شيء يدور بدقة آلية
كان الجو الهادئ في المكان يساعد على الاستذكار لذلك انتهزت ولاء الفرصة واستغرقت في كتابها لكن صوت أنين قادم من قسم الرجال جعلها تنتفض وتجرى نحو الصوت, دخلت الى الغرف لتجد المريض المسن يئن ويقول كلاما غير مفهوم, اقتربت منه ونظرت في شاشات الأجهزة المتصلة بجسمه واطمأنت أن كل شيء بخير, ثم عادت تنظر لوجهه وأخرجت من جيبها ميزان الحرارة الإلكتروني واطمأنت أن حرارته طبيعية, لكنه عاد للأنين والكلام غير الواعي من جديد, ولم تتبين ولاء من كلماته سوى كلمة فاطمة, رددها أكثر من مرة ثم بدأ يعود لهدوئه, نظرت في أوراق علاجه واستعادت مواعيد الدواء والحقن, واطمأنت أن العلاج يسير بانتظام
عادت إلى مكتب الاستقبال في القسم وبدأت تقرأ في كتابها من جديد, وأخذت تخطط بالقلم كعادتها تحت الكلمات المهمة,لكن صوت الأنين عاد من جديد, زفرت بضيق وأزاحت القلم والكتاب جانبا وزمت شفتيها وهي تفكر, ماذا تفعل الآن؟ وما الذي يمكن أن تقدمه لهذا المريض المسن لتخفف عنه بعض ما يعانيه؟
عادت إليه من جديد واستعادت ذاكرتها اسمه من الأوراق العلاجية بسرعة, فاقتربت منه وهمست في أذنه: عم محمد, أتريد شيء؟

لم يسمعها واستمر في الأنين والكلام الغير مفهوم, وعاد اسم فاطمة يتردد من جديد على لسانه وبصورة أوضح
أخذت تناديه بصوت أعلى قليلا: عم محمد, هل أنت بخير؟ أتحتاج لشيء؟
فتح عينيه أخيرا ونظر في وجهها فقالت بابتسامة واسعة: حمدا لله على سلامتك
قال ببطء وبصوت ضعيف: فاطمة , فاطمة
أدركت ولاء أنه مشوش ولا يدرى بما حوله فكررت بحنان : عم محمد, أترغب بشيء؟ هل تتألم؟
قال بصوت ضعيف : فاطمة, سامحيه يا بنيتي على كل ما فعله بك, وسامحيني أنا أيضا, لا تتركيه وحيدا في بحر لجي فهو الآن غريق يحتاج لمن ينقذه, مدى يديك إليه, لا تتركيه يغرق
اخترقت كلماته قلبها فوجدت الدموع تملأ عينيها فقالت بعطف : اهدأ يا عم محمد فاطمة ليست هنا الآن, ستأتي غدا
بدا أنه لم يسمعها, وأخذ يردد اسم فاطمة حتى أغمض عينيه وغاب في النوم من جديد
عادت ولاء إلى مكتبها ودموعها تسيل من التأثر, وأمسكت بالقلم والكتاب وهي لا تكاد تتبين الأسطر التي أمامها, وعادت تشرد بعيدا وصدى كلمات الشيخ المسن في أذنيها يتردد وعقلها يتساءل : ما الذي أتى به إلى هنا؟ وما كل هذا الندم الذي يتكلم به؟ ومن هو هذا الغريق؟
كانت كعادتها كلما هاجمها القلق والتفكير وسيطرت علي مشاعرها فكرة ملحة يتحرك القلم في يدها لا إراديا ويضرب سنه الطاولة بحركة عصبية , وكم من أقلام حطمتها بتلك الحركات اللاإرادية المتوترة, وقد ترسم دوائر فوق بعضها البعض حتى تسود الصفحة من كثرة ما خط عليها القلم
حاولت قدر جهدها أن تسيطر على أفكارها ومشاعرها فعصرت جفنيها وهزت رأسها بقوة وكأنما تريد أن تلقي من عقلها تلك الفكرة التي سيطرت عليها, وقررت العودة للاستذكار الجاد, 
زفرت بقوة وأمسكت بالكتاب لتفتحه, لكنها فوجئت بالغلاف الخارجي وقد ارتسمت بعرض الكتاب كلمة كبيرة عليه وتحددت وتلونت نتيجة سير القلم فوق حروفها عشرات المرات حتى أصبحت بارزة تماما أمامها, وأدركت ولاء أن عقلها قد استيقظ واستثير ولن يهدأ أو يرتاح قبل أن يعرف قصة ذلك الشيخ المسن كاملة

فقد كانت الكلمة التي رسمتها على غلاف الكتاب بحركاتها اللاإرادية والتي سيطرت على مشاعرها وأفكارها هى نفس الكلمة التي يرددها الشيخ المسن طوال الليل

فاطمه

مرت عدة أيام وولاء تترقب اليوم الذي ستنتقل فيه نوبتها إلى قسم الرعاية الفائقة فلا زالت القصة تسيطر على مشاعرها وعقلها ولن تهدأ حتى تعرفها كاملة, لكنها عرفت أن عم محمد قد تحسنت حالته وانتقل إلى غرفة عادية في الدور الأول, واليوم هي سعيدة للغاية, فنوبتها ستكون في نفس الدور الذي انتقل إليه عم محمد

لكن كانت لديها فكرة أخرى تلح عليها جعلتها تذهب إلى المستشفى بعد أن أنهت دراستها في الجامعة ذلك اليوم بالذات وتنتظر عدة ساعات في المستشفى قبل أن تبدأ موعد نوبتها

كانت الفكرة التي تلح عليها هي رؤية فاطمة, وتحقق لها ما أرادت بالفعل, فعندما وصلت إلى القسم لتجد زميلتها نجوى تجلس خلف مكتب الاستقبال والتي قالت بدهشة عندما رأتها : ماذا حدث؟ ما الذي أتى بك مبكرا, لازالت هناك ثلاث ساعات قبل انتهاء نوبتي
قالت ببساطة: أنهيت محاضراتي وليس لدى شيء أفعله فقررت المجيء الآن
نجوى: يراودني شعور بأن لديكي أسبابا أخرى أتت بك الآن
قالت ولاء: شيء من هذا القبيل
أخبريني, كيف حال عم محمد؟
نجوى : يتحسن بالعلاج
ثم هتفت : ذكرتيني, انه موعد تناوله العلاج
هتفت ولاء : انتظري, دعيني أقوم عنك بهذه المهمة
نجوى بشك : ألم أقل لكي أن ما أتى بك الآن هو شيء نبت في عقلك!
ولاء : لا تتذاكى كثيرا يا أختاه, كل ما في الأمر أنني أتعاطف معه 
نجوى : أو أن لديه قصة مشوقة تضميها إلى مجموعتك
ولاء ساخرة : يا للذكاء الخارق, أعطيني العلاج وكفى مضيعة للوقت
دخلت ولاء غرفة عم محمد بحماس وقالت بود : السلام عليكم, كيف حالك اليوم يا عم محمد؟ عسى أن تكون بخير
رد بود مماثل : الحمد لله, ولكن أين نجوى
قالت بابتسامة واسعة : أنا زميلتها ولاء, لقد أوصتني نجوى أن أهتم بك, فأنت بركة المكان
عم محمد : جزآكم الله خيرا, الحقيقة أن الخدمة هنا ممتازة, والمعاملة فوق الوصف
كانت ولاء تستمع إليه وعينيها تدوران في المكان, وأصيبت ببعض الإحباط عندما وجدته وحيدا, لكنها قالت ولهجة الود لم تغادر صوتها : دواؤك يا عم محمد بالشفاء والعافية
انتهى من تناول الدواء وأخذت ولاء تتباطأ في المكان علها ترى من جاءت لرؤيتها, فقامت بقياس نبضه ثم الحرارة, وبعدها ضغط الدم, وبدأ الوقت يطول وتنفذ حيلها ولم تظهر فاطمة بعد
أخذت أدواتها وهمت بالمغادرة لكنها قالت : أخبرني يا عم محمد, هل كل شئ على ما يرام؟ أهناك شئ يضايقك هنا؟
قال باسما : الحمد لله, الجميع هنا لم يقصروا, يؤدون واجبهم كأفضل ما يكون
قالت محاولة إيجاد مبرر لوجودها : ولكني أراك مهموما حزينا, أهناك ما يضايقك؟
تنهد بأسى : تلك هي الحياة, لا فرح يدوم ولا حزن يدوم
قالت بتعاطف : عافاك الله وأبعد عنك الأحزان ومتعك بالصحة والعافية
سأكون هنا طوال الليل إن احتجت لشيء فقط اضرب الجرس
قال بامتنان : شكرا يا بنيتى
التفت لتخرج من الباب لكن قبل أن تفتحه فتح من الخارج, لتجد ولاء نفسها أمام سيدة تغطى وجهها بنقاب حيتهما قائلة: السلام عليكم
ردت ولاء السلام بابتسامة واسعة وأخذت طريقها للخروج
واتجهت السيدة إلى سرير عم محمد وقالت بلهفة : كيف حالك يا جدي؟
كانت ولاء تتميز غيظا, فاللتى انتظرتها كل هذا الوقت لم تأتى إلا وهى مغادرة, ولا بد لها أن تغادر قبل أن تلفت إليها الأنظار
طقت فى رأسها فكرة , وبسرعة وضعتها قيد التنفيذ, ألقت ببعض الأشياء التى فى يدها أرضا كما لو كانت أسقطتها عن دون قصد
انحنت بسرعة تلملم ما سقط منها وهى تلتفت لهما وتقول بابتسامة بريئة : معذرة
أخذت تتلكأ وهى تلملم الأشياء التى تبعثرت وعينيها على الرجل والسيدة بعد أن اندمجا فى الحديث ونسيا وجودها
وجاءت اللحظة التي انتظرتها طويلا, فقد مدت السيدة يدها ورفعت نقابها أخيرا, وتجمدت ولاء للحظات وهى تنظر في وجه السيدة الشابة, لكنها تذكرت أن عليها الرحيل فحملت أشياءها وغادرت الغرفة بسرعة

انتهى موعد الزيارات بالمستشفى ورأت ولاء السيدة وهى تغادر المستشفى

لم تكن تدرى ما سر ذلك الشغف الذي سيطر عليها والفضول نحو تلك السيدة وذلك الشيخ, كانت تشعر أن هناك قصة قوية خلف هذا الثنائي
هدأت المستشفى بعد رحيل الزائرين, وانصراف أغلب العاملين فيها, واستقرار العاملين فى النوبة الليلية في أماكنهم
وبدأ ذهن ولاء يتجه من جديد إلى حجرة عم محمد, وقررت أن تشفى فضولها بسؤاله
كان الرجل المسن يرقد في فراشه والمسبحة في يده ولسانه يتمتم بالذكر والدعاء
وقفت عند الباب مترددة هل تقدم على سؤاله أم أنه سيعتبر فضولها الزائد نوع من التطفل واقتحام لحياة الآخرين؟
قال الرجل بصوت هادئ : تعالى يا ولاء
تقدمت منه بعد أن منحها صوته الهادئ بعض الشجاعة 
قال : أهو موعد دوائي؟
هزت رأسها نفيا, فقال بابتسامة هادئة : إذا, ما الأمر؟
استجمعت شجاعتها بسرعة وقالت مباشرة : الحقيقة أنك عندما كنت في غرفة الرعاية الفائقة وكنت أنا في نوبتي الليلية هناك, أثار فضولي بقوة أنك كنت تردد اسم فاطمة باستمرار, وتطلب منها أن تسامحك وتسامحه
شرد الشيخ قليلا وخبت ابتسامته, فترددت ولاء من جديد, ولكنها قالت: أعتذر عن فضولي, الزائد, فهو عادة قبيحة في لا أستطيع التخلص منها
كل ما أريده أن أعرف ما هي قصة فاطمة ومن هذا الغريق الذي بيدها إنقاذه؟
قال بدهشة : أبهمك الأمر لهذه الدرجة؟
قالت بانفعال: أكثر مما تتوقع, فأنا كاتبة قصص, وأحب أن أستفيد من خبرات وتجارب الآخرين, ولا أفضل من شخصيات حقيقية تكون لي إلهاما وحافزا لكتابة قصة جديدة, ولا تقلق, فكل قصصي أكتبها بأسماء غير حقيقية
قال باسما : ليس هناك ما أخجل منه أو أخفيه يا ابنتي, فكما تقول فاطمة (الأشج هو فقط من يحك رأسه باستمرار)
خطفت أحد المقاعد الخفيفة وقربته إلى سريره, وجلست بسرعة وعينيها تلمعان بحماس : إذا فلا مانع لديك من أن تحكي لي؟
قال باسما : لا , لا مانع من أن أحكي لشخصية لطيفة مثلك

وبدأ الجد يحكي

بدأت القصة من ثلاث سنوات أو أكثر, عندما جاء حفيدي لزيارتي في دار المسنين التي أسكن فيها ليدعوني إلى زفافه, وكانت صدمتي قوية عندما أخبرني أن العروس تغطي وجهها بنقاب
صرخت في وجهه : لقد جننت تماما, هل أصابك الخبل؟ كيف تتزوج من فتاة لم ترى وجهها؟
ضحك حفيدي شادي بصوت عالي : يا جدي لو عرفت كيف التقيت بها ستتعجب أكثر
يا سيدي اعتبره نوعا من التغيير
قلت وأنا لا أكاد أصدق ما أسمعه: كيف التقيت بها؟
بدأ يقص على القصة من بدايتها : كنت حائرا لا أدري ما الذي يمكن أن أهديه لصديقتي رودي في عيد ميلادها
الذهب أهديته إياها في العام الماضي وما سبقه
كانت لدى رغبة في التغيير هذا العام وإهدائها شيء مميز
وبعد تفكير طويل ودوران في الشوارع بسيارتي أنا والشلة, قررت أن أشتري لها زوج من عدسات العيون بلون بنفسجي, فأنا أعرف أنها لا تمتلك هذا اللون
كما أنه لون رائع يليق بها وبجمالها
دخلت إحدى محلات النظارات التي صادفتها في طريقي أنا والشلة لأفاجأ بسيدة تجلس خلف مكتب صغير في مواجهة باب المحل, لكن ما أثارني بشدة هو أنها كانت تغطي وجهها
وتعجبت كثيرا, كيف لامرأة تجلس في محل تجاري طوال النهار قد يدخله في اليوم الواحد مائة رجل وتغطي وجهها بهذه الطريقة 
لكنني تجاوزت ذلك وتقدمت منها قائلا: أريد زوج من العدسات من ماركة محترمة بلون بنفسجي فاتح
نهضت بصمت من خلف المكتب وأحضرت علبتين وهي تقول بجدية هذا النوع فرنسي والآخر أمريكي, اختر ما شئت
الحقيقة أن العدسات التي أتيت لأجلها لم تكن تشغلني بقدر تأمل تلك المخلوقة العجيبة التي لم تهتم لنا أو حتى تنظر إلينا
وعلى الرغم من قدر الوسامة والأناقة التي يتمتع بها شباب الشلة, إلا أنني على وجه الخصوص اشتهرت بأنني ساحر النساء في النادي
قلت وعيني تتأملها بدقة : اممم الحقيقة أن الأمر محير, اختاري لي أنت 
لم ترفع عينيها حتى لتنظر لي وكأنني مخلوق من هواء, وقالت باقتضاب: الفرنسي هو الأفضل
يبدو أن نظرات الخبث بين أفراد الشلة و البسمات والغمزات قد لفتت انتباهها فقد كان صوتها خشنا أكثر من اللازم وفيه بعض الحدة
وذلك ما استفزني أكثر فهذا الصوت الخشن الصادر منها ليس طبيعيا بالمرة, كما لو كانت تحاول أن تبدل نفسها أو تضع عليه غطاء كما تضع على وجهها غطاء
ملت بجسدي واستندت بمرفقي على زجاج طاولة العرض وكأنني لا أريد الرحيل, وقلت محاولا اطالة الموقف قدر ما أستطيع : ولكن أليس النوع الأمريكي أغلى؟
قالت بخشونة أكبر : لكن الفرنسي هو الأفضل
قلت محاولا استفزازها : ولكني أرغب بشراء الأمريكي
قالت منهية الحديث وهى تتناول علبة العدسات الأمريكية وتبدأ بوضعها في غلاف أنيق : كما تريد
سارعت بالقول: انتظري, أظن أن الفرنسي هو الأنسب, أليس كذلك؟
قلت العبارة الأخيرة بنبرة مطاطة مما جعلها تتجمد لحظات ثم تشرع في إخراج العلبة الأمريكية من غلافها لتضع الفرنسية مكانها, وكانت تتحرك بعصبية ظاهرة
ولكنني قلت باستفزاز أكبر : الحقيقة أن الأمر محير, هل آخذ هذه أو تلك؟
انطلقت ضحكات أفراد الشلة بعد أن كتمت طويلا, وبدأت التعليقات الساخرة الجانبية 
زفرت بغضب ورمت بالعلبتين أمامي على الطاولة الزجاجية وقالت بضيق : عندما تنتهي أخبرني, هذا إن كنت تريد الشراء بالفعل
ذهبت إلى زبون آخر دخل المحل للتو وبدأت تتحدث إليه
وتبادلت الشلة نظرات وغمزات, لكن ما غاظني هو شعوري أن نظراتهم الساخرة لم تكن لصالحي, وبدأت أشعر أنني وضعت قسرا في خانة المهزومين, فاندفعت قائلا بصوت عال : وهل من اللائق أن تتركيني وتتحدثي إلى زبون آخر؟
وهل هناك شك في أنني أريد الشراء؟ وما الذي دفعني للدخول إلى هذا المكان لو لم أرغب بالشراء؟
قالت بخشونة وبصوت يشوبه بعض السخرية : اسمعني جيدا يا أستاذ, أنا أجلس هنا منذ وقت طويل للغاية وأستطيع التفرقة جيدا بين زبون يرغب بالشراء وبين آخر يريد التسلية وقضاء الوقت
بدأت الدماء تغلي في عروقي وخاصة أن غمزات ولمزات الشلة بدأت تعلو, والشماتة وضحت في العيون, فقلت بحدة : أنت مخطئة يا…يا آنسة.. آنسة أليس كذلك؟
قالت بترفع : آنسة أو سيدة, شيء لا يخصك فاذهب إلى حال سبيلك
كانت الإهانة صريحة هذه المرة وفي الصميم, ولا يمكن أن أتقبل أن أخرج مطرودا بهذه الطريقة فقلت بحدة : أنا زبون وعليكي أن تعامليني باحترام
ردت بحزم : لا ترفع صوتك هنا
أما عن الاحترام, فالإنسان المحترم هو من يحترم نفسه أولا 
تفجر الغضب من أعماقي ولم أدري ماذا أقول أو ماذا أفعل؟ والشلة تتفرج على أنا لا هي, 
محقين
لو كنت مكان أى منهم لوقفت متفرجا مستمتعا بأكبر قدر من الموقف
أخيرا تدخل تامر وهو يحاول كتمان ضحكاته الخبيثة الساخرة : هاي.. إن هذا محل للنظارات ونحن لم نطلب سوى زوج من العدسات الملونة
ردت بحدة: هناك أكثر من خمس محلات للنظارات في هذا الشارع, يمكنكم انتقاء أفخرها, هذا لو كنتم تريدون الشراء بالفعل
علت صيحات الاستنكار والغضب بين أفراد الشلة
وفي المقابل كان الزبون الذي دخل المحل يرد بانفعال ويعترض ويؤيدها في أنها لم تخطئ
أما هي فقد بقيت صامتة ولم ترد
تركت المشاجرة ووجهت كلامي لها مباشرة : يجب أن تعلمي أننا لم نأتي إلى هنا إلا لشراء زوج من عدسات العيون
كم يكفيكي؟
أخرجت كل ما في حافظة نقودي, وكان مبلغا كبيرا, ألقيته أمامها على الطاولة الزجاجية 
لم تتكلم أبدا, لكن الرجل الذي يقف في الجانب المقابل هتف بغضب : عيب عليك يا أستاذ, هذا لا يليق
أتى على صوت المشادة ثلاثة شباب من خارج المحل ووقفوا يراقبون ما يحدث
قلت بعصبية : خذي ما يكفيكي والباقي بقشيش
نظرت بصمت نحو الثلاثة الواقفين عند الباب وكأنما قرأت في وجوههم الغاضبة نية العراك اذا ما تطور الموقف أكثر من هذا
وكأنما أرادت أن تنهي الموقف بأية طريقة, فمدت يدها وسحبت عدة ورقات قليلة وهي تقول بحزم : هذا ثمن العدسات, أما البقشيش فوفره لغيري, أنا لا أقبل بقشيشا هنا
والآن, خذ عدساتك وأصدقائك واذهب من هنا, وتفعل خيرا ان لم تأتي ثانية, فكما ترى, عودتك قد تتسبب لك في مشكلة كبيرة
فهمت رسالتها كما فهمها كل من معي وصمتوا تماما, وأدركت أن امرأة مثلها لا يمكن أن تقف وحيدة في مكان كهذا دون ضمان بالحماية ولو حتى من جيرانها
أخذت العلبة وبقية النقود ورحلت وخلفي الأصدقاء وأنا أتميز غيظا وأكاد لا أرى أمامي من الغضب

ذهبت إلى حفل عيد ميلاد رودي في فيلتها, وبمجرد أن رأتني ركضت نحوي هاتفة : شادي, لم تأخرت؟
حاولت أن أكون طبيعيا وأنا أقول وحولي الشلة يحاصرونني بنظراتهم وكأنما ينتظرون لحظة تقديم الهدية لتبدأ متعتهم في إلقاء التعليقات الساخرة 
حاولت أن أفوت عليهم الفرصة, فسحبتها من يدها وأنا أقول بسرعة: لا تهتمي, هيا لنرقص
لكن تامر لا يمكن أن يضيع فرصة كتلك فهتف بصوت عالي : ألن تقدم لها الهدية؟
بدأت تسرى بين الجميع موجات من الضحك الساخر, فنظرت إليه نظرة زاجرة, لكنه لم يهتم وأكمل : يجب أن ترى الهدية التي أحضرها لك
رأفت باستظراف : ربما كان عليها رؤية المحل الذي اشتراها منه
لم أعد أستطيع التحمل, فأخرجت الهدية بسرعة على أمل أن ينتهي ذلك الموقف السخيف بسرعة وأنا أحاول السيطرة على انفعالي 
استطاعت رودى الهاء الجميع عني عندما صرخت بفرحة : شادي, أنت رائع, انه اللون الذي كان ينقصني
طبعت قبلة على خدي: ما أروع هديتك, لا أحد يعرف ذوقي مثلك
تامر ساخرا : أنها هدية غالية
رودى بحب : بالتأكيد لأنها من شادي
وليد بتهكم: ليت الأمر مالا فقط. إلا…
زفرت بضيق وخطفتها من بينهم : هيا لنرقص
اندمجنا في الرقص على أنغام الموسيقى, وبدأت أهدأ, لكنها لاحظت تغيري, وانفعالي فقالت : شادي. ما بك؟ أنت لست على طبيعتك اليوم
قلت مجاملا, لا تهتمي, فقط موقف سخيف مررت به, وسأنساه سريعا
قالت بحزن : هل أنت حزين لأنني سأسافر غدا؟ صدقني حاولت أن أرفض
إن آخر ما أريده أن أبتعد عنك, لكن أبي أصر 
الأسرة كلها ستقضي شهور الصيف عند عمي في فرنسا, وأجبروني أن أذهب معهم
لا أدري ماذا فعلت بي كلمة فرنسا, فبدأت أغلي من جديد وأشرد بعيدا فيما حدث لي من ساعتين
قالت معاتبة : شادي, أأنت معي؟ 
قلت وأنا أحاول أن أتغلب على حالتي النفسية السيئة بابتسامة تمثيلية : بالتأكيد, وأين أستطيع أن أذهب؟
لو قلت لي أن أبقى, فسأتحداهم جميعا وأبقى لأجلك أنت
قلت : وتقضين شهور الصيف الحار هنا!
لا لن يرضيني هذا, اذهبي واستمتعي بوقتك
قالت بإحباط : وأتركك هنا وحدك!
لا أحد في هذا الكون يهمني أكثر منك
قلت : لا تقلقي, سأكون مشغولا بشركة الكمبيوتر التي أسسناها سويا أنا وتامر
لازالت في بدايتها لكن العمل يسير بشكل جيد وبدأنا نجني بعض المكاسب
قالت بقلق : بالنسبة لتامر, خذ حذرك منه, فعندما يجد مالا كثيرا أمامه يكون غير طبيعيا
قلت باستنكار : تامر! لا انه صديقي كما أن الشركة تهمه مثلي تماما فنجاحها لنا نحن الاثنان
قالت : فقط لا تمنحه ثقتك العمياء, وكن على حذر
عادت إلى لهجتها الأولى : كنت أتمنى البقاء إلى جوارك 
قلت بدهشة : وتتركي السفر إلى فرنسا, هذا هو الجنون
قالت بإحباط : أهذا هو رأيك؟
قلت وعقلي في مكان آخر : بالتأكيد الفرنسي هو الأفضل
كنت أعتقد أن ثورتي ستهدأ بمرور الوقت, لكنها كانت تزداد
لم أعد أستطيع التركيز في عملي, وكانت نقمتي على تلك المرأة التي جعلتني سخرية الجميع تزداد باطراد
وكلما حاولت أن أنسى ألقى أحد أفراد الشلة بكلمة ساخرة في وجهي ذكرتني بالموقف السخيف, وأشعلت نيران نقمتي من جديد
لدرجة أنني وبعد ثلاثة أيام وجدتني أقود سيارتي وأنا شارد بعد أن أنهيت عملي, ووجدت نفسي أمام محل النظارات
حاولت أن أمنع نفسي وأعود أدراجي, لكن رؤية اسم المحل وحده أشعلت رغبتي في الانتقام , فقفزت من السيارة واتجهت إلي المحل لأجد الباب الزجاجي مغلق وعليه ورقة كتب عليها (مغلق للصلاة)
عدت إلى السيارة والغل يأكلني وجلست فيها مترددا, هل أنتظر قليلا أم أرحل
لكن انتظاري لم يطل : فوجدت فتاة صغيرة السن تفتح الباب من الداخل وتسنده ليبقى مفتوحا وتدخل الى المحل
حزمت أمري ودخلت لتقابلني الفتاة الصغيرة بابتسامة مهذبة وهي تقول: مرحبا سيدي, بم أخدمك
قلت وعيناى تدوران في المحل يمينا ويسارا : أحتاج لنظارة شمسية من أحدث الماركات
ازدادت ابتسامة الفتاة اتساعا وكأنما رأت في زبون لقطة سيدفع كثيرا
وبسرعة وضعت أمامي مجموعة من النظارات مختلفة الموديلات والماركات 
أخذت أقلب فيما بينهم ورأسي شارد, ولكني قلت لها فجأة: ولكن أين السيدة التي تجلس هنا؟
قالت الفتاة ببراءة : من تقصد؟
قلت : تلك التي تغطي وجهها
قالت بفهم : آه, فهمت, تقصد أبله فاطمة, أنها تصلي
ألم يعجبك شيء؟
(الأستاذ لن يعجبه شيء)

التفت بسرعة لأجدها تخرج من خلف ستارة أنيقة تغطي حجرة جانبية في المحل
قالت وهى تتقدم : الأستاذ أخطأ العنوان, فهو يريد شراء شيء غير موجود هنا
قلت بتحدي : وكيف تعرفين أن ما أريده ليس موجود هنا!
قالت وهى تضغط حروف كلماتها : لأن هنا ليس سوى محل لبيع النظارات, نحن لا نبيع هنا أى شيء سوى النظارات
شعرت بالدماء تغلي في رأسي, وقلت وأنا أرمقها بنظرة غضب : إذا كنت لا تريدين البيع فلم تقفين في المحل؟ 
قالت بحزم : هذا ما لا شأن لك به, اذهب إلى المحل المقابل, ربما تجد ما تريد, أما هنا فلا شئ للبيع
تدخل فى الحوار فجأة رجل كهل يبدو أنه كان يتابع الموقف من عند الباب وقال لي بود : عفوا يا أستاذ, تفضل معي, سأريك أحدث تشكيلة إستوردناها من النظارات الشمسية
لم أتحرك من مكاني وبقيت أنظر إليها بغيظ 
لكم أود أن أقتلها
قال الرجل بلهجة لينة: أرجوك تعالى معي وسترى ما يسرك
خرجت معه بهدوء وهو يتحدث إلى وأنا شارد الذهن عن نصف كلماته, حتى وصلنا إلى المحل المقابل
أجلسني على احد المقاعد وأرسل صبيه ليحضر لي زجاجة مياه غازية, وأخذ يلقى على عبارات الترحيب بحفاوة
فقلت : ليت كل من يعمل بائعا لديه مثل هذا الرقى في التعامل مع الزبائن, كيف يمكن لأصحاب تجارة أن يأمنوا على مالهم بين يدي موظفين ليست لديهم أية خبرة في التعامل مع الزبائن المحترمين
قال بابتسامة ودودة : أنت تقصد أبله فاطمة, أنها ابنة صاحب المحل
لا تؤاخذها أنها حادة الطبع قليلا, لكنها محترمة وطيبة
أخذت أستمع إليه باهتمام وأنا أشرب زجاجة المياه الغازية وهو يقول: إن ما تراه كل يوم من أشباه الرجال والمتحذلقين وقليلو الأخلاق يجعلها حادة للغاية كما رأيتها
إنها معذورة 
فتاة شابة تحملت مسؤولية عائلة بأكملها بعد مرض أبيها, كما أن التجارة عليها ديون كثيرة, والبيع لا يسير بشكل جيد هذه الأيام
إنها مسئولية ينوء بحملها الرجال الأشداء
قلت وأنا مندهش تماما في عقلي من كلمة (فتاة شابة) فقد كانت مفاجأة لي : كنت أظن أن تجارة النظارات مربحة
قال : تجارة النظارات كأية تجارة أخرى فيها الربح والخسارة, وقد تمر علينا أوقات تصبح الديون فيها أكبر بكثير من المكسب
وكم من تجارة أغلقت أبوابها وأعلنت إفلاسها بسبب الديون 
شكرت الرجل ورحلت بعد أن اشتريت نظارتين بسعر محترم
ظننت أنني سأنسى الموضوع تماما, لكنني كنت مخطئ, لقد سيطر على هذا الموضوع تماما حتى أنني لم أعد أفكر في أي شيء سواه
وزاد من تأثري بالأمر سفر رودي وشعوري بالفراغ من بعدها
ربما لو كانت موجودة لما سيطر على هذا الأمر لهذه الدرجة, فهي صديقتي المقربة
استمرت الأفكار تغلي في رأسي, وتلح على إلحاحا شديدا 
وفي ليلة استمر فيها أرقي حتى الصباح, قررت قرارا مجنونا, ووضعت له خطة محكمة
كان على إذلالها وكسر أنفها بأية طريقة, لقد تحول الأمر بداخلي إلى تحدى ومعركة لابد أن أنتصر فيها
في اليوم التالي بدأت تنفيذ الخطة, أخذت أبحث خلف ديون المحل ودون أن تشعر هي بي
وبعد شهر واحد فقط استطعت حصر كل ديون المحل, وتعجبت كثيرا إذ كانت الديون أقل بكثير مما توقعت 
واكتملت الخطة عندما سحبت مبلغا كبيرا من نقود الشركة واشتريت به كل ديونها, فأصبحت مدينة لي وحدي
عندها فقط ذهبت إليها وأنا مفعم بالثقة والتحدي والغرور أيضا
وعندما دخلت من باب المحل وجدتها تجلس خلف مكتبها في صدارة المكان ومعها مصحف تقرأ فيه وبمجرد أن رأتني تجمدت تماما
قلت باستفزاز : مرحبا, ها قد التقينا من جديد
قالت مباشرة وهى تنهض من خلف مكتبها : أخبرتك من قبل ألا تأتي الى هنا ثانية
وقفت أمامي بتحدي ولكنني تجاهلتها وتقدمت ببرود وجلست على كرسيها خلف مكتبها
أصابتها جرأتي بالمفاجأة فوقفت صامتة للحظات, ثم قالت بأسلوبها الخشن : يبدو أنك تحتاج لمن يلقنك درسا ويقطع رجلك عن هنا قلت ببرود شديد وأنا أهز الكرسي الدوار الذي أجلس عليه يمينا ويسارا : هيا, أريني من يستطيع أن يقطع رجلي؟
كانت ذاهلة تماما من أسلوبي لكنها تمالكت نفسها بشجاعة وقالت : يبدو أن وقاحتك لا حدود لها
قلت بحزم : عليكى التزام الأدب مع من تعملين لديه
قالت بحدة: ماذا تقصد؟
رددت بهدوء: ما أقصده باعتبار ما سيكون عندما تعجزين عن تسديد ديونك
قالت بعصبية: ما هذا الهراء الذي تتفوه به؟
قلت والشماتة تتراقص في عيني وصوتي : أنت الآن مدينة لي وحدي, لقد اشتريت ديون المحل كلها ألجمتها الصدمة تماما وأنا متلذذ برؤيتها ذاهلة حائرة تكاد أن تنفجر غيظا مني
لقد كان الأمر يستحق العناء, فشعوري بالنشوى وأنا أراها في موقف الضعيف بعد أن كسرت كبرياءها روى غليلي وأشعرني بالقوة الفائقة
قالت بصوت خشن وببطء مقصود : من أول لحظة رأيتك فيها وأنا مدركة تماما أنك لم تأتي الى هنا لشراء زوج من العدسات فأمثالك يعتقدون أنهم قد امتلكوا الدنيا بما فيها من بشر
قلت ببرود : لم يكن الأمر وقتها بهذه الصورة, ولم أكن يوما أفكر بهذه الطريقة, لكنكى دفعتيني دفعا لذلك
قالت : والآن, ما الذي تريده بالضبط؟
قلت بتعالي : أريدك أن تفهمي جيدا مع من تتحدثين
قالت بتحدي : أفهم جيدا مع من أتحدث, ولكن أنت الذي لا تفهم ما هو حجمك الحقيقي
حتى الآن المحل ليس ملك لك, لذلك فعليك أن تخرج من هنا على الفور قبل أن آتي بمن يخرجك بطريقة لن تعجبك صدمني هجومها الذي لم أتوقعه فقلت بحدة : أتعلمين ما الذي تفعلينه؟ أتدركين حقا عواقب طردك لي؟ إن هذه هي ثالث مرة, والثالثة ثابتة كما يقولون
إن بيدي مصدر رزقك أنت وأهلك, أستطيع أن أشردكم وألقي بك أنت ووالدك في السجن
استشاطت من كلماتي وردت بأقسى منها : بل أنت الذي لا يفهم, فرزقي ورزق أهلي ليس بيديك أيها المتكبر المغرور, والمحل لازال ملك لنا حتى الآن, وديونك سألقيها في وجهك حالما يأتيني المال وحتى أن لم أستطع تكون أنت قد امتلكت هذه الجدران فقط, لكنك لا تستطيع امتلاك من فيها من بشر والآن اخرج من هنا فورا قبل أن آتي بمن يلقي بك إلى الشارع
خرجت وأنا لا أكاد أتبين طريقي من كثرة الغل والغضب الذي استولى على فمن أردت كسرها عصية على الكسر, وأنفها لازال شامخا كنت أتصور أنها ستتوسل لى لأرحمها وأعتق أهلها من ديونهم, أو حتى ترجوني لتأجيل موعد سداد الدين حتى تستطيع تدبير المال الكافي لكنها فاقت كل توقعاتي, ولازالت مصرة على إهانتي إن ما حدث لي اليوم على يديها لم يحدث لي في حياتي كلها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق