الأدب و الأدباء

‎بسم الله ‎الحلقه رقم(7)من روايه فاطمه 

 

 

الناشره/رانيا يوسف
___________________
‎كان شادي يسألها باهتمام ونحن نجتمع كعادتنا بعد العشاء في حجرة المعيشة : أخبريني بصدق, وأرجو ألا تفهميني خطأ لم تغطين وجهك؟ أعني, هل أجبرك أحد ما على ذلك
‎نظرت له نظرة مستنكرة, فابتلع ريقه وردد ثانية: لا تفهميني خطأ, ولكن..
‎تردد من جديد ثم قال : ولكن, فتاة في مثل جمالك وفتنتك لا يمكنني استيعاب فكرة أن تقدم على تغطية وجهها بملء إرادتها, فالمعروف بين الفتيات أنهن يحببن اظهار مواطن جمالهن وفتنتهن, حتى أن بعضهن قد يلجأن لعمليات التجميل أو الزينة الكثيفة والصبغات والعدسات الملونة, وأنت غنية عن كل ذلك الحقيقة أنني قد أتخيل أن أحد ما أجبرك على ذلك, والدك مثلا قد يكون خائفا عليك, لكن أن يكون ذلك برغبتك فهذا غريب!!
‎فإخفاء الجمال ضد طبيعة المرأة ورغباتها, فكل امرأة تود أن تكون جميلة في عيون الناس, ويعلو قدر المرأة كلما زاد جمالها 
‎صمتت لفترة ثم نظرت إليه وسألته بجدية : وهل تفضل أن أكون خلاف ما أنا عليه؟
‎قال ببعض الأسف: سؤالي لا علاقة له بما أفضله, بل هو استفسار وتعجب وفضول 
‎صمت قليلا ثم أكمل: أريد أن أعرف ما في رأسك بقيت صامتا منصتا أراقب ذلك الحوار باهتمام, وتذكرت أمرا غريبا, لقد قضيت في هذا البيت وقت طويل, ودارت بيني وبينها أحاديث كثيرة وحوارات طويلة, لكن لم يتطرق إلى ذهني أبدا أن أسألها هذا السؤال, ربما لأنني أتفهم طبيعتها المحافظة الملتزمة بدينها أما شادي فيبدو الأمر بالنسبة له عجيبا, فقد تربى في بيئة أخرى بعيدة تماما عن الالتزام الديني تربت أمه في الغرب, فوالدها كان دبلوماسي, عرفها ابني عندما كان في منحة دراسية لكندا, وتزوجها وعاد بها إلى مصر لينضما إلى المجتمع الراقي وتصبح زوجة ابني سيدة مجتمع ولكن مع الأسف, كل هذا الرقي والثقافة كان على حساب الهوية والانتماء والدين عاش حفيداي في بيئة تعتبر أي مظهر من مظاهر التدين هو تخلف وعودة للوراء وردة حضارية, وكان هذا هو السبب الأساسي لخلافي مع زوجة ابني
‎فبالنسبة لها وجودي في البيت بأفكاري وتصرفاتي وحتى ملابسي يهدم كل ما تربي عليه أبنائها 
‎أضيفي إلى ذلك المدارس الأجنبية التي درسا فيها فهي لا تعير الشعائر الدينية أدنى اهتمام
‎لذلك كان يعتبر فاطمة كائنا غريبا يستفز فضوله وجو جديد وبيئة مختلفة تثير اهتمامه ويود اقتحامها ليعرف ماذا وراءها
‎هتفت ولاء : وأين الأب من كل ذلك!!
‎قال بمرارة : رغم أن ابني تربى على أخلاق القرية وتقاليد المجتمع المحافظ, لكنه انسلخ منها تدريجيا منذ أن سافر إلى كندا وكلما تصادمت أفكار وتصرفات زوجته مع عقليته المحافظة يضطر إلى السكوت أمام شخصيتها القوية واتهامها له بالتخلف كلما أبدى اعتراضا على تصرفاتها, ولأنه لم يستطع أن يتقبل تلك التصرفات بسهوله, فكان الحل الأسلم بالنسبة له هو السكوت والانسحاب من البيت والانهماك في عمله مما تسبب في ابتعاد أولاده تدريجيا عنه
‎قالت ولاء باستنكار : من كثرة إنصاتي للمرضى وحكاياتهم أدركت أن كل خطأ ومشكلة يرتكبها الأبناء, يكون للأب النصيب الأكبر فيها
‎تنهد الشيخ بألم, وتجاوز الرد عما أثارته ولاء من كلمات مؤلمة له وعاد للحكاية
‎يبدو أن فاطمة فهمت طبيعة حفيدي جيدا, لذلك فقد تقبلت الأمر ببساطة وبدأت تحكي دون أن تتغير لهجتها الودودة وتجيب عن كل أسئلته الحقيقة أن ما سمعته فاجأني كثيرا, فقد كنت أظن الأمر طبيعيا وعاديا أن تقوم فتاة من بيئة شعبية محافظة بتغطية وجهها, ولكنني كنت مخطئ كثيرا في ظني فالأمر أصعب كثيرا مما توقعت بدأت الحكاية بالإجابة عن سؤاله : لا لم يجبرني أحد على أي شيء وخاصة أبي, فهو لم يكرهنا يوما على شيء لا نريده, على العكس, فهو يمنحنا الحرية الكاملة لنفعل ما نريد ثقة منه في أخلاقنا وتربيتنا, حتى أنه لم يعترض عندما أحبت أختي الكبرى زميل لها في العمل, ووافق على الفور عندما تقدم لها فقط لأنها رضيت بالعيش مع أهله في شقتهم الصغيرة نظرت خلسة إلى شادي لأرى تأثير كلماتها على وجهه, لقد أحنى رأسه متأثرا, وتفهمت مشاعره, ففاطمة لم تحظى بربع ما نالته أختها, انه الاختيار الحر,والحب استمرت فاطمة في حكايتها وعدت للانتباه لها : ولأنه كان من طبعنا الاحتشام في الملبس لذلك فقد كانت تغطية الرأس خطوة طبيعية وعادية لي ولأخواتي خاصة وأنه كان منتشرا بين أقراننا في المدارس الحكومية التفت إلى شادي مجددا لأجد الدهشة على وجهه
‎نعم هو محق أن يندهش, حتى أنا كنت مندهشا من مدى اتساع الفجوة الاجتماعية بينهما حتى يبدو وكأن كلا منهما قد تربى في كوكب مختلف ثم عدت أستمع إليها وهي تقول : إلى هنا وكل شيء مستقر ويسير عاديا ذهبت يوما مع بعض الصديقات لأداء صلاة الجمعة في المسجد, ومن صلاة الجمعة إلى دورة لحفظ بعض أجزاء من القرآن بالمسجد اجتزتها بسرعة كبيرة, ثم التحقت بمعهد لحفظ القرآن الكريم
‎اعترض شادي بدهشة: ولكن من أين لك بالوقت الكافي وأنت طوال النهار منهمكة في عملك بالمحل!
‎قالت باسمة: من يبحث عن الوقت سيجده بالتأكيد, لقد وفقني الله في حفظ ثلثي القرآن تقريبا
‎قال شادي بتعجل : ولكن لم تخبريني بعد لم وكيف غطيتي وجهك؟
‎قالت والابتسامة لا تفارق شفتيها : الأمر جاء بتدرج تلقائي, فالمقدمات دائما ما تؤدي للنتائج
‎كانت ملابسي تطول وتتسع كلما تعمقت في قراءاتي الدينية, ثم بدأت رغبة ملحة بداخلي تدعوني لتغطية وجهي كلما نظرت في المرآة, أو كلما لاحظت نظرات الرجال النهمة إلى وجهي
‎همس شادي بصوت وصل إلى أذني : محقين 
‎أكملت دون أن تعير انتباها لعبارة شادي الهامسة: وبعد صراع نفسي شديد بين رغباتي الأنثوية وبين سعيي لرضا ربي, قررت ارتداء النقاب وتغطية وجهي وقتها اعتقدت أنني حرة في اختياري, وأنني وحدي صاحبة القرار في هذا الأمر, وأن صراعي النفسي قد انتهى بمجرد أن حسمت اختياري لكن الصراع الحقيقي قد بدأ لقد فوجئت بمعارضة أسرية عنيفة هزتني بعنف, وكان رأس المعارضين وأشدهم هو أبي, وعندما سألته عن السبب, رص لي قائمة طويلة من الإجابات أولها هو كيف ستقفين في المحل طوال النهار مغطاة الوجه, وماذا ستفعلين في أيام الصيف شديدة القيظ؟ وماذا عن أقربائنا, أبناء عمومتك وأبناء أخوالك, هل ستستخفين منهم هم أيضا!!
‎وماذا ستفعلين في الدعوات العائلية والأفراح, هل ستعتذرين عنها وتبقي في البيت وحيدة؟
‎والأهم من كل هذا, ألم تسمعي بحوادث الإرهاب التي انتشرت في هذه الأيام؟ 
‎إن الإرهابيين يستخفون في ثياب امرأة تخفي وجهها, ماذا لو ارتاب فيك أحد أفراد الأمن وأراد أن يكشف وجهك ليعرف إن كنت امرأة أو رجل متخفي؟ وماذا لو اصطحبك إلى قسم الشرطة ليتحرى عنك كانت كلماته ترجني رجا وتفتت ثقتي بنفسي
‎أما أمي فقد كانت تخشى أن يبتعد عني الخاطبين بعد أن أخفيت جمالي عن العيون وبدأ أخواتي في عمليات غسل الدماغ والإيحاء النفسي بجمل مثل (لازال الوقت مبكرا لتلك الخطوة) (انتظري حتى تتزوجي وبعدها افعلي ما تريدين) (يجب أن تطيعي أباك وأمك ولا تغضبيهما, فذلك أحب إلى الله وأعلى في الثواب)
‎ازدادت الضغوط عنفا حتى أن أبي لأول مرة في عمري كله يرفع يده ويصفعني على وجهي صفعة أدمت قلبي قبل أن تدمع عيني أبي كان دائما صديقا لنا, هو الحنان مجسدا في صورة إنسان لم يضربنا أبدا حتى ونحن صغار وعلى خلاف أغلب الرجال في وسطنا والذين كانوا يتمنون الولد كان هو يحمد الله ليل نهار أن رزقه بالبنات, ولم نسمعه يوما يشكو الى الله أو يتذمر أن ذريته من البنات, أو حتى يدعو الله أن يرزقه الولد, بل كان دائم الفخر بنا
‎لقد زلزلني موقف أبي مني وكاد أن يجعلني أبدل رأيي وأمتنع عن لبس النقاب وخاصة بعد أن قرر مقاطعتي, والامتناع حتى عن مشاركتي الطعام أو الكلام أو حتى الجلوس في نفس الحجرة التي أجلس فيها ولكن يبدو أن الضغوط العنيفة قد زادتني إصرارا على موقفي, وجعلتني أتمسك برأيي أكثر, فصمدت أياما وأسابيع وبدأ أخواتي يملون من التحدث الى في هذا الموضوع , ثم بدأت أمي تتقبل الأمر باستسلام للأمر الواقع ويبدو أنها قد أشفقت على من مقاطعة أبي لي, فكانت تتحدث إليه سرا وترقق قلبه تجاهي وبعد شهور مرت العاصفة بسلام وخرجت منها بيقين قوى أنني إذا أردت شيئا غاليا فما سأدفعه سيكون غاليا أيضا
‎قال شادي بحيرة : ولكن لم كل هذا! ولأي شيء! ولأية مكاسب تخوضين حربا كتلك
‎أتعلمين أنني أؤيد والدك في وجهة نظره أردت أن أتدخل في الحديث, فقد خشيت أن يؤثر كلام شادي على العلاقة بينهما ويتسبب في تقلب قلبها عليه لكنها سبقتني وأجابت بابتسامة هادئة : أنت محق في وجهة نظرك, فمن ينظر أمامه مباشرة يجد الأمر هكذا, فتاة تصر على ارتداء النقاب وتغطية وجهها في المكان الخاطئ والتوقيت الخاطئ ولكنني لم أكن أنظر أمامي, بل كنت أنظر لبعيد, بعيد للغاية, كنت أنظر إلى رضا ربي وطاعته ولكن لأن الإنسان دائما سريع الملل سريع النسيان, فقد بدأت أتأثر بكل ما هو حولي ورغم صمودي أمام الإجراءات العنيفة التي اتخذها أبي ضدي, وبعد أن انقشعت الغيمة, ظننت أن الأمور استقرت ولكن كان ينتظرني ما هو أشد, فقد ابتعدت عني صديقاتي ووجدت نفسي وحيدة بعد أن كنت محاطة بأعداد كبيرة من الصديقات والأقسى من ذلك أنني تعرضت للكثير من السخرية والاستهزاء بمظهري وملابسي قد تصل أحيانا إلى حد الإهانات الصريحة وبدأت تتخبطني الأفكار والهواجس, وكانت نفسي أشد على من كل من هم حولي, فثارت في نفسي الهواجس والوساوس بسبب النقاب ابتعد أصدقائي عني وأصبحت وحيدة ومهانة ومثار سخرية الجميع إذا فأمي محقة في خوفها على, كيف لي أن أتزوج إن كان الجميع يتجنبني ويسخر حتى من ملابسي؟
‎وبدأت كلمات أبي تأخذ طريقها إلى عقلي, وكلما رأيت ضابط أمن يسير في الطريق, أغير طريقي وأسير في طريق آخر مخافة أن يشتبه بي بسبب ملابسي قلت بدهشة : لا أعتقد أن الأمر كان بهذا السوء, فما أكثر المنتقبات في هذه البلاد, وما أكثر المتزوجات منهن
‎قالت : نعم, بالتأكيد لم يكن الأمر بهذا السوء ولكنه شيطان العقل عندما يسيطر عليه تصبح كل المخاوف متضخمة والوساوس حقائق فعليه والهواجس أمور واقعية إن أصعب ما يمكن أن تواجهه في الحياة هو أن تتخذ قرارا وأنت موقن بأنه صحيح مئه في المئه, ثم تفاجأ بأن من يقف في طريقك هم أقرب الناس إليك عندها تهتز ثقتك بنفسك وتتردد, هل أنت على صواب أم خطأ وتهتز قدرتك على اتخاذ القرار 
‎وكانت هذه هي أصعب فترة مرت على في حياتي, أصعب بكثير من الفترة التي قضيتها في خصام مع أبي لدرجة أنني كرهت النقاب وكرهت مظهري وملابسي, ولآلاف المرات فكرت أن أتخلى عن النقاب وأعود كما كنت, ولكني كنت أتراجع في آخر لحظة بكيت وانتحبت وسجدت لله كثيرا ودعوته أن يثبتني وشكوت إليه ضعفي وإحساسي بالذل والمهانة فكلما جلست في المحل أشعر بالإختناق وعدم القدرة على التنفس, فأكشف وجهي لأتنفس براحة وأستمتع بذلك الإحساس للحظات, ولكنني كنت أتراجع بسرعة إذا ما رأيت رجلا قادما نحو باب المحل, فأغطي وجهي بسرعة قبل أن يدخل المحل قلت بشفقة : تألمتي كثيرا قالت باسمة : لكن ألمي لم يطل فسرعان ما بدأت نفسي تهدأ وروحي تستقر, وأتعامل مع النقاب كأمر واقع لن يتغير, وبدأت أروض نفسي على هذا الواقع, وأقنع نفسي بأنه أسلوب حياتي ولا يمكن تغييره وبالفعل استطعت تجاوز تلك المرحلة الصعبة وأبقيت النقاب على وجهي طوال فترة مكوثي في المحل والتي قد تمتد إلى 14 ساعة يوميا, حتى ألفته واعتدته كما لو كان جزء من وجهي, حتى أصبحت أشعر بغرابة كلما خلعته في البيت عندها فقط عرفت أنني تغلبت على نفسي الأمارة بالسوء, وبدأت أفكر بشفافية أكبر وبعقل أكثر, فتبين لي أن تلك المرحلة المؤلمة التي مررت بها كان لا بد منها حتى يختبر الله مدى صدقي وإصراري وإيماني عندها أدركت أنني قد ازددت قوة وقدرة على التحمل, وأيقنت أن أية مشكلة ستواجهني بعدها أستطيع أن أتغلب عليها, ولن يقف في طريقي شيء طالما أنني أسعى لرضا ربي قال شادي بشك : إذا فأنت تؤمنين أن النقاب هو فريضة, وأن كل امرأة يجب أن تغطي وجهها وإلا فستكون….
‎قاطعته بسرعة وقالت بحزم : كلا, أنا لا أؤمن بأن تغطية الوجه فريضة ملزمة لكل امرأة, بل الفريضة هى تغطية الرأس وسائر الجسد أما الوجه ففيه خلاف, وأنا أعتبره فضيلة وقربى الى الله أسبلت جفنيها وقالت : قد تعتبرني مغرورة, ولكني موقنة أنه فريضة وواجب في حقي ولنفسي هذا هو ما أظنه
‎ابتسمت بإعجاب وقلت بود : وأنا أيضا أظنك محقة في تصورك هذا
‎صمت شادي تماما ولم يتكلم, بل ظل يتأملها مليا ويدور بعينيه في وجهها الجميل, أما أنا فقد سألتها : إذا فقد هدأت نفسك واستقرت لهذا الاختيار؟
‎قالت بابتسامة ودودة: بل الأكثر من هذا أنني بدأت أستشعر فضل ربي على وإكرامه لي
‎فلم أعد أرى في أعين الرجال من حولي تلك النظرات النهمة التي كنت أكرهها, بل رأيت نظرات تحوى الاحترام, والكثيرين كانوا يتجنبون النظر إلى ويخفضون أعينهم كلما تحدثوا الى احتراما لخصوصيتي وتقديرا لصيانتي لنفسي بل أنني قد اكتشفت أن أغلب صديقاتي اللاتي تركنني بعد أن لبست النقاب لم يكن صديقات بالمعنى الحقيقي كانت صداقة قائمة على المنفعة, فالتي ترغب أن أكون عروسا لأخيها, والتي تصادقني ليقال أنها صديقة لأجمل فتاة في المعهد, والتي ترغب في الانضمام لشلة أصدقائي والأشد والأنكى من ذلك تلك التي كانت تصادقني وتتخذ مني رفيقة لدربها نذهب سويا ونعود سويا, اكتشفت أنها ترغب في أن يسير الشباب خلفنا في الذهاب والإياب بسياراتهم ودراجاتهم النارية, فهي تتخذ مني طعما لاصطياد من يعجبها حمدت الله كثيرا أن كشف لي تلك المخازى, وخلصني من كن يدعين صداقتي, بل رزقني بمن هن خير وأتقى 
‎صديقات يصاحبنني لشخصي وشخصيتي دون منفعة أو غرض في نفوسهن
‎قال شادي برنة أسى : وأين هن الآن؟
‎نظرت إليه طويلا ثم قالت كما لو كانت تنفي ظنه بأنه هو الذي أبعدها عن صديقاتها : الغالبية منهن تزوجن وانشغلن ببيوتهن وأزواجهن وأولادهن, وبعضهن بدلن السكن ويقمن في أماكن بعيدة, لكن الاتصالات لا زالت بيننا من وقت لآخر
‎قال شادي بعد تفكير : إذا فكل الخطوات الهامة في حياتك تمت رغما عن ارادتك!!
‎درست في معهد لم يكن هو رغبتك الحقيقية, وارتديت النقاب بعد عاصفة من الصراع النفسي, و…..
‎صمت شادي ولم يكمل, لكن استنتاج ما يريد قوله كان سهلا للغاية
‎كانت تفكر مليا في كيفية الرد عليه دون أن تجرح شعوره : قد يبدو لك الأمر لأول وهلة أنني كنت مضطرة أو مجبرة على فعل أشياء كثيرة دون إرادتي
‎قال : نعم, هذا صحيح
‎قالت : لا يمكنني أن أصور نفسي كضحية للظروف والزمن والناس, هذا ليس حقيقيا
‎قال بأسى : وما هو الحقيقي في حياتك؟
‎قالت : لقد كانت تواجهني دائما تحديات في الحياة كأي إنسان, أكون فيها بين خيارين وعلى أن أفاضل بينهما وأختار احدهما وتلك هي الحياة, مجموعة من الابتلاءات والتحديات والاختيارات, 
‎ومع كل تحدي يواجهني كنت آخذ فرصتي الكاملة في التفكير والتأني والمفاضلة بين الاختيارات وقياس السلبيات والإيجابيات لكل منها ثم أختار بمحض إرادتي وبكامل حريتي قال بعصبية : ولكنك دائما ما تختارين الأبعد عن أحلامك وأمنياتك ورغباتك الشخصية

‎قالت بصدق : نعم, قد أختار في أحيان كثيرة الأبعد عن هوى نفسي, ولكن اختياري يكون دائما هو الأقرب لرضا ربي
‎صمتنا تماما, فلم يعد هناك ما يمكن أن يقال بعد تلك الكلمة
‎لقد فهمت أخيرا وبوضوح جلي كيف تفكر فاطمة, وما هو الدافع الأساسي والثابت وراء كل تصرفاتها
‎قالت بصدق : نعم, قد أختار في أحيان كثيرة الأبعد عن هوى نفسي, ولكن اختياري يكون دائما هو الأقرب لرضا ربي
‎صمتنا تماما, فلم يعد هناك ما يمكن أن يقال بعد تلك الكلمة
‎لقد فهمت أخيرا وبوضوح جلي كيف تفكر فاطمة, وما هو الدافع الأساسي والثابت وراء كل تصرفاتها

‎أتمت الصغيرة عاميها بعد أن أتعبتنا وأجهدتنا, وأصبحت زهرة البيت وشمسه وقمره كانت المدللة لدى أبيها, وعندما يعود من عمله لا يكف الشغب والصراخ والصخب في البيت
‎ولا يستطيع أحد أن يفصلهما عن بعضهما البعض
‎وكلما احتاجت فاطمة لإطعامها أو تبديل ملابسها تضطر الى الركض خلفهما في البيت كله, وعندما تتعب تهتف في زوجها : شادي لقد دللتها كثيرا, سيفسدها تدليلك
‎فيرد عليها ضاحكا والعفريتة الصغيرة فوق كتفيه : مين يعادينا مين مين في أراضينا هاها
‎وتردد خلفه الصغيرة بحروفها اللذيذة الغير مكتملة, فيتحرك قلبه بالحنان وينزلها من فوق كتفيه الى الأرض ويدغدغها بحب ويغرقها بالقبلات والصغيرة تصرخ بدلال وضحكاتها تملأ البيت بهجة وسرورا
‎وأنا وفاطمة نراقب ونضحك بسعادة 
‎قامت فاطمة من مكانها وجلست على الأرض أمام شادي والعفريتة الصغيرة بين أحضانه, وذراعيه مطبقتين حول جسدها الصغير, 
‎فعلمت أنها ستقول الآن كلمتها التي ترددها كثيرا كلما عجزت عن أن تأخذها منه
‎فتقول بحزم وهي تحاول رسم الجدية قدر ما تستطيع : شادي, أعطني ابنتي
‎تخرج الصغيرة لسانها وتقول بعناد : لأ, بابا
‎فتقول فاطمة بحزم أكبر : شادي, أعطني البنت, أريد أن أحممها وأبدل لها ملابسها, انها لم تأكل حتى الآن
‎ينظر للصغيرة ويرسم الأسى على وجهه : أرأيت, أغضبنا ماما, البنت الطيبة يجب أن تطيع أمها, هيا الى الحمام
‎تهز الصغيرة رأسها وتتسع حدقتاها بمكر, فيهمس في أذنها : وسنكمل اللعب بعد الحمام
‎تقفز من بين أحضانه وتجري الى الحمام وخلفها فاطمة, والسعادة مرتسمة في عينيه وهو يراقبهما
‎وأنا مستمتع تماما بتلك التمثيلية المرحة الشبه يومية
‎قام شادي عندما سمع صوت جرس الباب وقال بتأفف : ماذا يريد البواب في هذه الساعة؟
‎وعندما فتح الباب وجد أمامه ما لم يكن يتوقعه أبدا
‎نهضت ولاء من كرسيها 
‎نظر اليها عم محمد مندهشا وقال : ماذا هناك؟ هل انتهت نوبتك؟
‎قالت بابتسامة عريضة : لا, اكتفيت بهذا القدر
‎قال بدهشة : اكتفيت!!
‎قالت : نعم, اكتفيت بما سمعته, فبالنسبة لي هذه هي أفضل نهاية لقصة يمكن أن أكتبها
‎قال : ولكن القصة لم تنتهي بعد
‎قالت : الحقيقة أنني لا أحب المآسي ولا النهايات الحزينة, لذلك, فلا أرغب بالمزيد
‎قال : وما أدراك أن النهاية حزينة؟
‎قالت : لأن تقلبات الحياة لا تخفى على أحد, كما أنني رأيت الحزن في عينيها وفي عينيك أيضا, كما أن عدم قدوم حفيدك لزيارتك وأنت في الرعاية الفائقة يدل على أن هناك نهاية حزينة للقصة
‎أما أنا ككاتبة فيكفيني تلك النهاية السعيدة الجميلة 
‎اعذرني يا عماه, أتعبتك
‎قال وهو يبتسم : أنت وما تريدين, مع السلامة
‎غادرت الغرفة وعادت الى زميلتها التي سألتها بفضول : لديك قصة جديدة أليس كذلك؟
‎قالت : نعم, عم محمد قاص ممتاز, انها تجربة حياة غنية, وأحداث حقيقية
‎قالت زميلتها : والنهاية؟ مفرحة أم محزنة؟
‎قالت : سأنهيها عند الجزء المفرح
‎قالت بدهشة : كيف؟ ألم تسمعي القصة الى نهايتها!!
‎قالت ولاء : لا, فالواضح أن النهاية حزينة, اذ يبدو أن حالة عم محمد تأثرت كثيرا بتلك المشكلة, وأنا أحب أن أنهيها عند الجزء المفرح من القصة 
‎قالت زميلتها : هذا يتوقف على القصة نفسها, وهل تناسبها تلك النهاية أم لا
‎ظلت تلك الكلمات عالقة في ذهن ولاء لعدة أيام, وكانت غير مرتاحة وتشعر دائما أن هناك شيء ناقص في القصة
‎قصة غريبة, لا تحوى سوى ثلاثة أشخاص فقط
‎بل أربعة, نسيت العفريتة الصغيرة مبدلة الأحداث وفاتحة القلوب
‎وان أضفنا أخت البطلة, وأمها وأبيها, وربما البواب…
‎ما هذا الهراء الذي أفعله!!!!
‎هكذا حدثت ولاء نفسها, فالقصة هكذا تؤرقها بشدة فهي ليست مقبولة
‎مما دفعها الى العودة الى غرفة عم محمد لتستمع لباقي القصة
‎وقفت عند الباب, وبمجرد أن رآها قال باسما : أهلا يا ولاء, تعالي
‎قالت بتردد : انه موعد العلاج
‎كانت تعطيه العلاج وهو يراقبها ويراقب تعبيرات وجهها دون أن يتكلم
‎انتهت من مهمتها ووقفت قليلا مترددة فقال بمكر : أهناك شيء؟
‎قالت بسرعة : نعم, أريد أن أستمع الى بقية أحداث القصة
‎ضحك قائلا : كنت أعلم أنك لن تستطيعي الصبر, وستعودين حتما لإكمال القصة
‎قالت بحماس : هل نكمل الآن
‎قال : نعم
‎تناولت الكرسي وقربته وجلست بجوار سريره وقالت بشغف هائل : ماذا وجد شادي عندما فتح الباب؟
‎قال باسما : لا زلت تذكرين الأحداث وأين توقفنا
‎قالت بسرعة : نعم, كل التفاصيل في عقلي
‎قال مكملا الحكاية : وجد شادي شيء نسيه منذ زمن, أو لنقل تناساه
‎وجد أمه وأخته على الباب
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق