اخبار الرياضة
بوفون.. أحزانٌ زرقاء
كتب/ياسر طلعت
كان رُبْعُ المرمى الكبير عارضتين عموديتين وعارضة أفقية، فيما ترمي الشِباكُ بشعرها إلى الوراء بعذريةٍ واضحة.
أما أرباعُه الثلاثةُ المُتبقيَةُ فيحتَلُّها بأكملها جانلويجي بوفون.
على جَانِبَيِّ المرمى، تمتدُّ قبورُ حُراسٍ خانتهم اللياقة ولم تُسعفهم الرشاقة في مواجهة الشراسة ولحظات الاجتياح الحاسمة. نجومٌ آفلة، وبقايا زفراتٍ وأشواق مُجْهَضَة.
وحده بوفون شَاهِدٌ، قُرمُزيُّ اللَّونِ، مثل ضوء شَفَقٍ مختنق، يقف على هيئةِ نِصفِ قَوسٍ، كأنه أسدٌ يتنكر في ثوبِ فراشة.
مهما كانت قوة التسديدة ومهارة التصويب وخَرائِطُ التضْلِيل، فإن الكرة تتْبَعُ مَشِيئَتَه. رُخٌّ يحجبُ عينَ الشمس، ويضم الكونَ في قبضته. ذراعاه براعمُ الدهشة، وساقاه اختصارُ المسافة، وجسدُه عنوانُ البسالة.
شجرة السرو الإيطالية، بكتْ بحرارة في ليلةٍ سويديةٍ بامتياز.
لن يرى عشاقُ الكرة عِرْقَ الريحَانٍ في روسيا 2018.
لن نستمتع بإنقاذه الأسطوري لكراتٍ مستحيلة، وتيجان الوقار تعلو هامته. لن نصفق له وهو ينتفض من قلب الرماد، ويصيح في الرفاق كقائدٍ مقتدرٍ، قوي، موفور الْهِمَّةِ.
ليلتها أغمض عينيه أثناء عزف النشيد الوطني لمنتخب الفايكنغ، وشرد في تَصَوُّرهِ السُّكونيِّ المَسْكُونِ بهواجس الإقصاء. رأى الأشباح قبل أن يراها رفاق الآزوري.
رغم الهزيمة بهدفٍ يتيم في مباراة الذهاب، حاول عملاق “اليوفي” أن يُشْعِلَ لهيبَ قُبْلةٍ قديمة، وأن يجعل الصعبَ سهلًا، لكن السويديين استبسلوا، والإيطاليين أضاعوا مفاتيحهم، ولم يكن هناك من يتقمص روح باولو روسي أو روبرتو باجيو أو أليساندرو ديل بييرو.. وفي خط الوسط لم يكن هناك بيرلو آخر!
الأمل واليأس توأمان.. بالزي الأزرق هذه المرة.
بعد صافرة النهاية، وضع بوفون ذقنَهُ فوق يَدِهِ اليُمنَى المعقودةِ الكَفِّ كقبضةٍ رخوةٍ، مُرسِلًا بصرَهُ صوب أفُقٍ لا يَبِينُ أمامَه ولا يراه.
انهارت الأحلامُ وصارت كوابيس بالنسبة لحارس المرمى الوحيد الذي فاز بجائزة أفضل لاعب في أوروبا (2003)، وكان الدُّرة المُصْطَفَاة ليلة عانقت إيطاليا الكأس في مونديال 2006.
يداري بأجنحة القهر حُرْقَة القلبِ ودمعتين عصيتين. يخلع مع قفازيه حلمَه المخذول، كمن لدغه الحنين. حتى في حزنه النبيل، أحبَّ الجمهور في هذا الوضَّاء وسامتّه.
ها هو بوفون، أحد ثلاثة لاعبين فقط لعبوا في كأس العالم خمس مرات (بجانب أنطونيو كارباخال ولوتار ماثيوس) يغادر بكل الطمأنينة التي يجسدها، تاركـًا أغراضه الشخصية تنمو على خط المرمى كعشبٍ محتمل.
بعضُ أحلامنا الكبيرة مدفونة تحت هذا المرمى الذي حرسه يومـًا بوفون.