عالم

«الكونتيسة وزوجها» .. آخر محاولات إسرائيل اغتيال العلماء الألمان

«الكونتيسة وزوجها» .. آخر محاولات إسرائيل اغتيال العلماء الألمان

كتب….عاطف أنيس

قالت مجلة نيوزويك الأمريكية إن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، لم يتخلى عن خطته التي تقوم على اغتيال العلماء الألمان في مصر، باعتبارهم بقايا النظام النازي، حتى بعد فشلها في تجنيد عملاء لها من الفريق الذي يعمل على تطوير البرنامج الصاروخي المصري في الستينات.

وذكرت المجلة، في تقرير مُطوّل نشرته على موقعها الإلكتروني، أن الوحدة التي كانت مسؤولة عن تجنيد عملاء من الدول العربية في الموساد كانت تُعرف باسم “جنكشن”. وسعى مائير عاميت، رئيس الموساد في ذلك الوقت، إلى القضاء على حالة الفوضى التي سيطرت على الجهاز الاستخباراتي في الفترة السابقة، بسبب تكرار العمليات الفاشلة لاغتيال العلماء الألمان في مصر.

وفي عام 1964، قرر عاميت إرسال إيتان، رئيس وحدة بيردس التشغيلية تابعة للموساد، إلى باريس، والتي تعد بمثابة مركز الأعصاب للمخابرات الإسرائيلية، وذلك لإدارة عمليات جنكشن في أوروبا.

إلا أن جنشكن واجهت مشاكل عرقلت عملياتها في أوروبا، أولها أن هرمان أدولف فالنتين، ضابط الأمن الألماني والخبير الذي ذهب إلى مصر لتقديم الاستشارات للضباط المصريين، أصبح مشكلة كبيرة، وأصبح لزاما على جنكشن التعامل معه، لكي تنجح خطتها.

وفي الوقت ذاته، كان لدي أبراهام أهيتوف منسق جنكشن في بون فكرة عرضها على إيتان في باريس في مايو 1964. فلقد كان يعرف شخصا مشكوكا فيه بأنه يبيع الأسلحة وأجهزة استخباراتية لنظام ناصر، بالإضافة لكونه مقربا من علماء ألمان، إلا أن أهيتوف قال إن “هناك مشكلة صغيرة واحدة”.

وأوضح أهيتوف أن هذا الرجل يدعى أوتو سكورزيني، وكان ضابطًا كبيرًا في القوات المسلحة ، وقائد العمليات الخاصة لدى هتلر، ومفضلاً لدى الفوهرر.

“ليلة البلور”
وأخبر أهيتوف إيتان في 1960، إن إيسار هارئيل، رئيس الموساد ذلك الوقت، أصدر أوامر لوحدة أمل، وهي وحدة تتولى البحث عن مجرمي الحرب النازيين، لجمع أكبر قدر من المعلومات عن سكورزيني، بهدف تقديمه إلى العدالة أو قتله، وكشف ملفه أنه كان عضوا متحمسا في الحزب النازي النمساوي، وقد تم تجنيده عام 1935 في جهاز “إس إس” شوتزشتافل السري بالنمسا، كما كان له دور في عملية “ليلة البلور” (Kristallnacht)، وتتدرج في المناصب في “ڤافن إس إس” أو “افن اس اس” هي منظمة عسكرية نازية تابعة لشوتزشتافل ليصبح رئيسا لوحدة العمليات الخاصة بها.

وبحسب المجلة فإن سكورزيني هبط بالباراشوت في إيران، وقام بتدريب قبائل محلية لتفجير أنابيب البترول التي تخدم جيوش الحلفاء، كما خطط لقتل الثلاثة الكبار – وينستون تشرشل ، جوزيف ستالين وفرانكلين روزفلت. بالإضافة إلى أنه كان لديه خطة لخطف وقتل الجنرال الأمريكي دوايت أيزنهاور.

وقد وقع اختيار سكورزيني بشكل شخصي من هتلر لقيادة غارة “جران ساسو” والتي نجحت في إنقاذ بونيتو موسليني صديق الفوهرر وحليفه، من فيلا بجبال الألب والتي احتجز بها كأسير من الحكومة الإيطالية.

ووصفت أجهزة الاستخبارات المتحالفة سكورزيني بأنه “أخطر رجل في أوروبا”، ومع ذلك لم توجه له تهمة إدانة بجرائم حرب، وتمت تبرئة ساحته من قبل محكمة واحدة، وبعد أن أعيد اعتقاله بتهم أخرى، هرب بمساعدة أصدقائه من الـ” إس إس”، وحصل على حق اللجوء في فرانسيسكو فرانكو، إسبانيا، حيث أقام علاقات تجارية مربحة مع أنظمة فاشية في جميع أنحاء العالم.

كانت معرفة سكورزيني بالعلماء في مصر، وحقيقة أنه كان ضابطًا متفوقًا لدى فالنتين أثناء الحرب، أكثر مما يكفي لأقناع الموساد بتجنيده، على الرغم من ماضيه النازي. فقد شعر إيتان أن انضمامه إلى الموساد سيصب في مصلحة إسرائيل.

“الكونتيسة”
أجرى الموساد من خلال عدد من الوسطاء اتصالا مع الكونتيسة إيلسي فون فيكنستين – زوجة سكورزيني، والتي يمكن استخدامها كمدخل للوصول إليه.

فملف الوكالة يقول عن الكونتيسة أنها كانت “عضوًا في الطبقة الأرستقراطية. وهي ابنة عم وزير المالية الألماني قبل الحرب يالمار شاخت، وتبلغ من العمر 45 عاما ، وأنها امرأة جذابة إلى حد ما، مفعمة بالطاقة.

قال عنها رافاييل ميدان – أو “رافي”، عميل الموساد المولود في ألمانيا، والذي تم تكليفه بالمهمة: إنها لعبت دورًا في كل شيء”، موضحًا، أنها باعت ألقاب النبلاء، وكانت لها علاقات مع مخابرات الفاتيكان وأيضاً كانت تبيع الأسلحة.” كما كانت لديها هي وزوجها أفكار متحررة عن علاقتهما.

أوضح رافي أن الكونتيسة وسكورزيني لم يكن لديهما أطفال. وتابع: “كانت علاقة زواجهما منفتحة. كانت دائماً تبدو مذهلة، وكانت تخضع كل سنتين لعلاج بالهرمونات في سويسرا من أجل الحفاظ على شبابها”.

عُرف عن رافي قدرته على التأثير على النساء، بسبب مظهره الأوروبي الجميل، بحسب تقرير الموساد حول هذه القضية.

والتقى رافي بالكونتيسة في أواخر شهر يوليو 1964 في دبلن، وقدم رافي نفسه على أنه موظف بوزارة الدفاع الاسرائيلية كان في عطلة ويتطلع للعمل في السياحة الدولية وأنه ممكن أن يكون مهتما في مشروعات تطوير جزر البهاما والتي منحتها الكونتيسة أهمية خاصة.

أَعجبت الكونتيسة برافي كثيرًا، وتقول المجلة إنها وجهت له دعوة لحضور حفل في مزرعتها، وذلك بعدما انتهوا من حديثهما حول العمل، وكانت تلك الدعوة بمثابة البداية للقاءات أخرى جادة شملت بعض الحفلات الصاخبة في أوروبا.

وحسب الموساد، انتشرت شائعة لعدة سنوات وتمت الإشارة اليها ضمنياً في التقارير، وهي أن رافي أقام علاقة غير جنسية حميمية مع الكونتيسة، لاقناعها بالعمل لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلي.

“حياة بدون خوف”
في مدريد في عشية السابع من سبتمبر لعام 1964، أخبر رافي الكونتيسة أن صديقا له من وزارة الدفاع الاسرائيلية يريد أن يقابل زوجها بخصوص “أمر شديد الأهمية”، وأن هذا الصديق موجود في أوروبا وبانتظار الرد.

وفي ذلك الوقت، كانت القوات القوية اليهودية، بما في ذلك صياد النازيين سايمون فيزنتال، يحاولون العثور على نازيين من أمثال سكورزيني ومحاكمتهم، وكان عرض رافي على الكونتيسة بمثابة ضمان لبدء حياة جديدة خالية من الخوف.

في صباح اليوم التالي، أبلغت الكونتيسة رافي أن زوجها على استعداد لمقابلة صديقه في تلك الليلة، إن أمكن.

فقام عميل الموساد باستدعاء أهيتوف إلى مدريد، وإعداد لقاء في ردهة فندق في ذلك المساء، حيث قُدم الاثنان لبعضهم البعض.

لم يتمكن التقرير النهائي الداخلي للموساد، على الرغم من كتابته بلغة مهنية جافة، من التغاضي عن حدته: “أبراهام أهيتوف هو من سلالة عائلة متدينة، من مواليد ألمانيا وتعلّم في مدرسة دينية يهودية.

بالنسبة له، كان الاتصال مع وحش نازي تجربة صادمة للمشاعر تجاوزت متطلبات المهنة “.

في التقرير التفصيلي الذي قدمه أهيتوف، في 14 سبتمبر 1964، وصف المحادثات التي أجراها ذلك الأسبوع مع الضابط السابق في قوات الحماية النازية كالتالي:

لقد تحدثوا عن الحرب والهولوكوست وأشياء أخرى، وتطرق أهيتوف لموضوع مشاركة سكورزيني في برنامج ليلة البلور.

وأخرج قائمة طويلة تضم أشخاصاً من الذين شاركوا في الهجمات وقدمها إلى سكورزيني، الذي كان على دراية بالوثيقة؛ لأن الاتهام كان قد أثير ونوقش أثناء محاكمته بخصوص جرائم الحرب.

وأشار إلى علامة X كتبت بجانب اسمه قائلاً: “هذا دليل على أنني لم أشارك”، على حد قوله، على الرغم من أن الصائد النازي فيزنتال فسر العلامة باعتبارها دليلا على العكس تماما.

وبعد المحادثات التي استمرت لفترة طويلة، أخبر أهيتوف سكورزيني أنه يعمل في المخابرات الإسرائيلية، ورحب الأخير بالتعاون الكامل والشامل مع دولة الاحتلال، وطلب جواز سفر نمساوي ساري المفعول باسمه الحقيقي، وأمر قضائي مكتوب يمنحه الحصانة مدى الحياة من الملاحقة القضائية، ويوقع عليه رئيس الوزراء إشكول ؛ وإزالته على الفور من قائمة فيزنتال للنازيين المطلوبين، بالإضافة أيضاً لبعض المال.

أشعلت شروط سكورزيني نقاشات حادة في الموساد؛ فقد رأى أهيتوف وإيتان فيها “قيداً تنفيذيا ومتطلبا لنجاح العملية”.

وقال مسؤولون كبار آخرون: إنها “محاولة من قبل مجرم نازي لتطهير اسمه”، وطالبوا بإلقاء نظرة جديدة على ماضي سكورزيني.

كشف هذا التحقيق الجديد عن مزيد من التفاصيل حول الدور الذي لعبه في عملية “ليلة البلورة “باعتباره قائد إحدى مجموعات الغوغائيين الذين أحرقوا معابد اليهود في فيينا”، وأنه “حتى وقت قريب، كان مؤيداً نشطاً لمنظمات النازيين الجدد”.

“الضربة الأخيرة”
كانت خطوة سكورزيني الأولى أنه بعث برسالة إلى أصدقائه في مصر تفيد بأنه يعيد إحياء شبكة من قوات الحماية النازية إس إس و المحاربين القدامى من “قوة الدفاع” (فيرماخت) لتأسيس الرايخ الرابع. وكان عليه أن يخبرهم أن على منظمته جمع معلومات بطريقة سرية، وذلك للتحضير للعملية الأساسية.

وبالتالي، سيتعين على العلماء الألمان الذين يعملون لحساب عبد الناصر أن يقوموا، بموجب قسم الولاء لهتلر، بإمداد منظمة سكورزيني الوهمية بتفاصيل أبحاث الصواريخ الخاصة بهم حتى يمكن استخدامها من قبل القوة العسكرية الألمانية الجديدة التي يتم تجهيزها.

وفي نفس الوقت، أعد كلا من سكورزيني وأهيتوف خطة محكمة للحصول على معلومات من فالنتين، ضابط الأمن الجبار الذي كان يعرف كل شيء عن مشروع الصواريخ المصري.

لكن بعكس تجنيد سكورزيني المتسم بالدقة والخبرة، والذي كان يدرك أنه يتعامل مع رجل من الموساد، والذي لم يحاول أهيتوف أبداً تضليله – قرر الاثنان أن يمارسا بعض الخداع مع فالنتين.

أدى سكورزيني دوره ببراعة، فاستدعى فالنتين إلى مدريد بحجة أنه كان يستضيف تجمعاً خاصاً لمرؤوسيه من أيام “الحرب المجيدة”.

وحجز لرئيس جهاز الأمن إقامة، على حساب الموساد، في فندق فاخر وقدم له خطته الزائفة عن إحياء الرايخ.

ثم كشف أن هذا ليس السبب الوحيد للدعوة لمدريد، وانه كان يرغب في مقابلة صديق مقرب، ضابط في المخابرات البريطانية السرية إم آي 6، وعلى حد تعبيره فإن البريطانيين كانوا مهتمين بما يدور في مصر، وطالب فانلتين بمساعدة صديقه.

وشعر فالنتين بالريبة، وسأل:” هل أنت متأكد بان الإسرائيليين ليسوا طرفا”.

أجابه سكورزيني بقوة: “قف منتبهاً عندما أتحدث إليك، واعتذر” “كيف تجرؤ على قول شيء كهذا لضابطك الأعلى”.

اعتذر فالنتين، لكنه مع ذلك لم يكن مقتنعاً. وكان على حق، فلم يكن “صديق” سكورزيني بريطانياً، بل كان أسترالي المولد ويعمل عميلاً رئيسياً في الموساد ويدعى هاري باراك.

وافق فالنتين على مقابلته ولكن ليس التعاون معه، ولم يفض اللقاء بينهم إلى شيء.

“خدعة ناجحة”
لكن سرعان ما توصل سكورزيني إلى حل. ففي لقائه التالي مع فالنتين، أخبره أن صديقه من جهاز المخابرات البريطانية، ذكّره بأن تلغراف كان سكورزيني قد أرسله قرب نهاية الحرب، يخبر فيه الأركان العامة بقرار ترقية فالنتين، لم يصل إلى وجهته، وأنه تجري ترقيته بأثر رجعي.

وبالفعل فإن تلك الخدعة أتت بثمارها فلمعت عين رئيس الأمن، وذلك على الرغم من رمزية، ولكن من الواضح أنها عنت الكثير بالنسبة له. وعلى أثر ذلك، قام واقفاً وألقى تحية “هايل هتلر” (النصر لهتلر) وشكر سكورزيني كثيراً بإلحاح.

وقال سكورزيني لفالنتين: إنه على استعداد لمنحه وثيقة مكتوبة تؤكد ترقيته. شعر فالنتين بالامتنان لصديقه الجديد من المخابرات البريطانية على المعلومات التي قدمها، ووافق على مساعدته بقدر ما يريد.

وفي الوقت المناسب، دعا سكورزيني إلى مدريد ضباطاً سابقين من قوة الدفاع (فيرماخت) ضالعين في مشروع الصواريخ. حضروا حفلات باذخة في منزله، وُصفت بأنها تجمعات قدامى محاربي القوات الخاصة الألمانية. أكل ضيوفه وشربوا واستمتعوا حتى وقت متأخر من الليل، دون أن يعرفوا مطلقاً أن الحكومة الإسرائيلية هي التي تدفع ثمن طعامهم وشرابهم وتتنصت على محادثاتهم.

المعلومات التي قدمها سكورزيني وفالنتين والعلماء الذين جاؤوا إلى مدريد حلوا الجزء الأكبر من مشكلة الموساد المعلوماتية الخاصة ببرنامج الصواريخ المصري. فقد عرفتهم من كان مشاركاً في المشروع والوضع الحالي لكل مكون من مكوناته.

بفضل المعلومات التي تم الحصول عليها من هذه العملية، تمكن الموساد أيام عاميت من تدمير مشروع الصواريخ من الداخل، باستخدام عدد من الأساليب. فعلى سبيل المثال، تمكنت وكالة إنتل من التعرف على خطة مصرية سرية لتجنيد عشرات العمال من مصنع هيليج للطائرات والصواريخ في فرايبورغ والذي كانوا على وشك إغلاقه. وعليه قرر أميت الاستفادة من الزخم لتنفيذ خطوة سريعة تهدف إلى منع رحيلهم إلى مصر.

وفي صباح يوم 9 ديسمبر 1963، قام بيريز نائب وزير الدفاع آنذاك، وميدان بحمل حقيبة مغلقة تحتوي على عدد من الوثائق باللغة الإنجليزية كانت مستندة إلى مواد قدمها سكورزيني وفالنتين من بين آخرين، وسافروا بالطائرة من أجل أن يجتمعوا بواحد من كبار السياسيين في ألمانيا الغربية، هو وزير الدفاع السابق فرانز جوزيف شتراوس.

كانت المعلومات التي قدمها بيريز إلى شتراوس أكثر تفصيلاً وخطورة بكثير من أي شيء تم تقديمه إلى الألمان سابقاً. وقال بيريز لشتراوس: “لا يمكن تصور أن يساعد العلماء الألمان أسوأ عدو لنا بهذه الطريقة، بينما تقف أنت مكتوف الأيدي”، وبالتأكيد شتراوس أدرك وقتها ما كان يعنيه تسريب مثل هذه المواد للصحافة العالمية بالنسبة له.

نظر شتراوس إلى الوثائق ووافق على التدخل، فدعا لودفيج بولكاو، وهو شخصية قوية في صناعة الطيران الألمانية، فأرسل بولكاو مندوبيه ليعرض على علماء ومهندسي مصنع هيليج وظائف بظروف جيدة في مصانعه، مقابل تعهدهم بعدم مساعدة المصريين.

تقول المجلة إن الخطة نجحت، ولم يذهب أغلب أعضاء المجموعة أبدًا إلى مصر، رغم أن برنامج الصواريخ كان في حاجة شديدة لمساعدتهم على العمل على أنظمة التوجيه المتعثرة، وهو ما تسبب في النهاية في شلل المشروع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق