الأدب و الأدباء

قصة الاسبوع”قالتها جدتي”

تأليف : وحيد القرشي

كلما أتذكر جدتي وحكاياتها الممتعة العجيبة المخيفة احيانا كثيرة,أشعر بالاشتياق لها واتمني ان تعود لحظة واحدة,من تلك اللحظات القابعة في قلبي بعشقا وعمق,أتذكر حكاياتها عن “المرأة المخيفة السمينة الممتلئة الجسد ” كان يخيفون بها الاطفال الصغار من الذهاب علي شاطئ البحر للاستحمام خوفا عليهم من الغرق,وعندما كبرت علمت انها خدعة وخيال لا اساس لها,وكنت أستمتع بحكاياتها عن العشق والعاشقين,في يوم من الايام وفي الساعة الواحدة ليلا كانت تحكي لي قصة عن العفاريت والجن,لدرجة اني خفت ,وقررت الا أنام معاها مرة اخري ,ولو لا الحاح ولادي لما نمت معها أبدا,كنت أعشقها واستمتع بالحديث معها,كانت عظيمة قوية,كانت تجلس وقت العصر علي دكة المرحوم جدي خارج البيت ,تجلس بعظمة وعزة نفس,فمعظم المارة من الكبار والصغار كان يحترمونها,ويلقون التحية والسلام عليها,كانت كبيرة بأحترامها ,وحنونة ,تحب الخير وتفعله,دائما كانت تقول لي ,قبل ان تنام عليك بقرأءة القران ,وذكر الله,وان تنام علي وضوء وطهارة,وكنت دائما ,عندما استيقظ من النوم,احكي لها أحلامي وكوابيسي ,وكانت تفسير لي دائما أحلامي ,عن طريق كتاب الله وسنة رسوله,أتذكر عندما حكت لي عن قصة عمي حسان الهمام العاشق الولهان ,لصفية جارته ,وعن حلمه انها قتلته بمسدس وسقط علي الارض ونزف الدم من جسده,جدتي فسرت هذا الحلم بأنه خير وأن صفية تعشق عمي ,ونزف الدم من جسده ,يعني أنها زوجته ,وقد تحقق حلم عمي وأرتاح وأستراح من لهفة العاشق الولهان ,وصدقت جدتي في تفسيرها ,كانت توجهني دائما أن اؤمن بالقدر,وان ما كتبه الله سيكون لا محالة منه,وها أنا كبرت وهي في قبرها منذ سنوات عدة,يرحمها الله رب العالمين,وتأكدت من صدق حديثها ,فهي حكيمة في كلامها واعية ومدركة لما تقول ,لان كلماتها نابعة من القلب بصفاءا وصدق, فالحكمة تنتج عن مجموعة من الخبرات والتّجارب المتراكمة التي يمر بها الانسان عبر سنوات حياته، ولا يشترط بذلك أن يكون الحكيم كبيراً في السن؛ بل قد يكون الصغار حكماءً أيضا,وقد تعلمت من جدتي الحكمة والهدوء ,وأدراك الكلمات وتعقلها قبل التلفظ بها.
الان انا في ريعان شبابي ,كانت تتمني أن ترأني عريسا وتفرح بي قبل ان تموت,ولكن القدر والموت وميعاد الله لا مفر منه, ساعات قليلة فاصلة بين لقائي بمحبوبتي , في طريقي للسفر لرؤيتها ومقابلة والدها وأسرتها,وكالعادة أشعر بالحذر والقلق ,منذ كنت صغيرا وتأتي لحظة السفر لمكان بعيد او قريب أو أمر ما ,أرتبك وأشعر بذلك ,هذه المرة السفر مرغوب ومحبوب ومنتظر من مدة وله ترتيب ومذاق خاص ,تلك المرة الأولي التي أتوجه بها للسفر لبيت محبوبتي وشعاع النور والامل في حياتي ,منذ أفترقنا ,او فرقنا الحاسدين الحاقدين بأكاذيبهم المصطنعة,وأنا أنوي السفر بين الحين والاخر ,لنلتقي وجها لوجه ونتصالح ونبعد تلك المغالطات عنا ,فبعد المسافات وعدم الألتقاء أوجد حالة من الرغبة الملحة لوضع نهاية حتمية ,هي تعلم جيدا حبي وتعلقي بها الغارس في عمق قلبي ,والعشق الجنوني بلهفة ,ورغم ذلك قررت الرحيل وأبتعدت ,حاولت مرارا وتكرارا ان نعود ,فضلت اللأعودة ,خوفا من تكرار شئ لم أفعله بحجة واضحة فاضحة للهروب من عشقا حتميا, وبدايات لرجفات وقتية وحتمية ايضا,تحبني بكرامة وكبرياء جنوني أوصلنا لما نحن فيه من البعد الغير متوقع والمفاجئ .
الساعة الأن العاشرة مساءا , أنام لأستيقظ في الساعة الثالثة فجرا لأبدء بتجهيز نفسي ووضع النهايات واللمسات الجمالية الاخيرة ,للمواجهة المفرحة المبهجة للقلب مع محبوبتي ,يا تري هل أستطيع النوم او غمض جفن العين لبرهة من الزمن ,لا والله لن أستطيع ,أعيش حالة مزاجية منغمة بأشياء لا يمكن وصفها الأ بحالة واحدة”رهفة القلب” تلك الحالة المتقلبة المزاجية المؤلمة والمفرحة أيضا ,ألتقاء حزن وفرح وترقب وأنتظار ولهفة وخوفا وقلق في وقت واحد بطريقة متلاحقة متلاحمة .

يالله …أين المحمول؟ لأعرف كم الساعة الان ,ها هو بجواري بالجانب الاخر,الحمدلله أستيقظت في الوقت المحدد فالساعة الان الثالثة فجرا ,أقوم لأدخل الحمام والبس ملابسي واحمل حقيبتي المحملة بأشياء كثيرة ليزيد عليها أشياء أخري في سفري تلك المرة .

وصلت لمحطة القطار في الوقت المناسب لم يتبقي سوي عشر دقائق لوصول القطار المتجه للقاهرة ,لأركب قطارا أخر متجه الي الأسكندرية ,ساعات فاصلة للقاء محبوبتي الجميلة الخفيفة الدم والظل ,طيبة القلب ,لقد أحدثت لي حالة من الجنون البكري عندما ظهرت أمامي اول مرة بالكاميرا ,كدت ان اجن من جمالها الطبيعي وطريقتها الطفولية ,وهي تلوح وتشير ناحيتي ناطقة أسمي بصوت حنون ,تلك اللحظات لم تفارقني طيلة فراقنا المصطنع .

التفكير أخذني لشريط أيامنا الجميلة ,كنا نتكلم بالساعات وما بين كل نصف ساعة حديث للقلب ,حالة من الحب والعشق ,أتذكر كلماتنا القلبية ومشاعرنا الجميلة ,كنت أقول لها “وحدة علي الهواء” وأكررها وكانت تضحك وألح طالبا ردها ببوسة أيضا ,فكانت تخرج صوتا يسمعه الجميع احببتها حبا جنونيا من تلك الافعال الطبيعية البرئية ,وفي حالة السكوت أعلم ان احد بجوارها ,فكنت أطلب ان تتنحنح وتخرج صوتا ,هي لا تعلم ان ردها يريح ويبهج قلبي المتعطش الحاني المنتظر بلهفة لسماع تلك الكلمات منها.

كنت أقول لها شعرا بين الحين والاخر ,أتذكر عندما جننت من حنان ودفء صوتها وكدت ان اقبلها في الهاتف ,فقولت لها “صوتك انتي دفء من نوع اخر اي جنون هذا عندما أريد تقبيل صوتك ,ان صوت الاخرين أسمعه اما صوتك أنتي فأراه “,التقاء المحب بمحبوبته,أرتواء وأحتواء وأشتهاء,وأستدراك ما لا يدرك قبل بداية الرجفات ,فان تألفا وحدث الوفاق والاتفاق واحتضن كل منهما الاخر بات العشق قريبا من قلب المحبين,وان تخالفا واختلفا بات الفراق الحتمي دون رجعة ,لان الطريق لم يكن واحد من البداية,أرسلت لها رسالة عاجلة بقرار علم الوصول ,قولت فيها:ألم يحن وقت العودة والرجوع ,ألم تفكري في طفلا يناديكي بأمي,أن لم تكن الحياة بك ولك ,كيف تكون,وان كانت,ستكون اياما معدودة,بأنفاس مكبوتة صامتة ,تنتظر ليوذن لها بالرحيل,الحياة يا حبيبتي لن تكون ولن تطول ولن ولن ولن,الا من اجلك فقط لا غيرك ,تذكري ما كان بيننا لعلكي تستفيقي مما أنتي فيه.
أجابت بعجل:لم ولم ولم الثلاثة والتي لم تذكرها “ألم يحن الوقت لتتزوج غيري وتقهرني كما قولت وقولتها مرارا وتكرارا “,تتكلم عن الذكريات لعلنا نستفيق,الصحيح أن أغفر وتغفر ,أن تسامح واسامح,ألم تكن لك أخطاء جارحة مميتة قاتلة ,تحياتي لك
قولت لها:أخطائي كانت كلمات لا فعل,ولن أتكلم عما فعلتيه,ليسامحنا ويغفر لنا رب العالمين
أجابت:الكلمات أصعب من الفعل احيانا كثيرة,تكلم لتقطع ما تبقي من وصل ووصال
أرسلت لها:تحياتي لك.
أخذني التفكير بها بعمق ولهفة من لقاء حتميا ولا بد ان يكون,تلك الوجوه التي أراها في القطار ,رأيت منها الكثير في السجون,نفس الكلمات والحركات,ولهجة وحركة اللسان ,ونظرة الحيرة والترقب لشئ ما ,لم يتغير سوي المكان ,داخل القطار أيضا , لم تغيب العاطفة الانسانية ,امراة مسنة تحمل في يدها علبة مناديل تبيعها داخل القطار..تقول”أشتروا مني يا ولادي ,يرحمكم ربنا..اشتروا يا ولادي ,يريحكم ربنا”…ايضا فتاة في العشرينات من عمرها تحمل طفلها الرضيع علي كتفها وتمسك في يدها مجموعة من الاذكار تبيعها تقول”أستروني يستركم ربنا”..ايضا رجل مسن يحمل علي كتفه المتهالك بالزمن “صنية بها اكواب وبراد من الشاي” يقول “الحياة كفاح وانا لازم اكافح ” نعم الحياة كفاح ونجاح ولا يوجد شئ اسمه فشل الا في قاموس الاغبياء اليأسون” تلك الكلمات البسيطة عبرت عن ما بداخلهم ,وبأستعطاف للأخرين,والتي تجبر الكثير ان يتعاطف ويشتري,وينحني خجلا امام تلك الحالات المتواجدة المتكررة كل لحظة اثناء السفر وداخل القطار.
الساعة الان العاشرة والنصف صباحا ..الحمدلله وصلت لمحطة رمسيس ,لم أشعر بالسفر ,السفر قطعة من العذاب وايضا فيه سبع فوائد ,ساعات قليلة وأيضا مسافات قليلة للقاء محبوبتي ,ذلك اللقاء وتلك اللحظة المنتظرة المرتقبة بلهفة متعمقة من قلبا نابض بالحب ,قلب يلهف وتسرع دقاته كلما أقترب اللقاء ,يا تري هل نلتقي وأري محبوبتي أمام عيني لأشبع بها قلبي المتعطش لرؤيتها وحسي الناطق بعشقها ,المسافات تقترب والقطار يجري ليأخذ منها ,تمنيت ان اكون قائده ,لأطير به علي القضبان ,او اركب طائرة تحلق فوق بيت حبيبة القلب ونور العين ,وصل القطار لمحطة بنها بعد مرور ساعة ونصف ,فضلت النزول هنا عن محطة طنطا ,لقرب المسافة بين بنها ومدينة ميت غمر ,ساعة واحدة او ازيد فاصلة من الاقتراب والالتقاء بمحبوبتي ,اللقاء المنتظر بلهفة .
الناس هنا طيبون في تعاملاتهم ,أكثر احتراما ورقيا ,عندما كان يأخذني الحديث مع صديق ما عن الفرق في التعاملات بين الوجه القبلي والبحري,الكل أجمع ان” الصعايدة رجالة” وبهما الشهامة والكرم,ولكنهم يتعمقون في الامور الخاصة لمعرفتها ,وهذا خطأ وعيب فيهم ,وذلك بطبيعة المكان والعشرة والعائلة,وقد تكون ميزة ايضا,فهم لا يفرقون في تعاملاتهم بين المصلحة الخاصة والعامة,ام الوجه البحري,محترمون ومتعلمون ,وهمهم الاول والاخير المصلحة الخاصة,قد يكون ذلك ايضا بحكم المكان والعيشة المتفرقة عن الاهل والعائلة ,ويؤمنون بالخصوصية ويطبقونها في حياتهم ,وتلك ميزة تحترم,فالوجوه لا تتغير كثيرا ,تظل الملامح والطيبة المصرية كاسية الوجه ,والعامل الاساسي والحاضر في كل التعاملات والمقابلات والازمنة والامكنة ,عشر دقائق فقط وأكون بجوار حبيبة القلب ونور العين ,منذ افتراقنا وأنا لم أعد أرى للكون أي لون ولم أعد أرئ النور ,فكل شئ أصبح سواد ومظلم، ولا أسمع أصواتاً سوى نبضات قلبي المتسارعة التي تهمس باسمها في كل دقة، أنام لأراها هناك تنتظرني كما كنا نتواعد دوماً، أستيقظ لأجدني وحدي أنتظرها دون أن أمل,فسوف تعود ولن تغيب عني مرة أخري، وسأظل في أنتظارها حتى ألقاها,وقد أقترب اللقاء.

عودة الحبيب بمثابة عودة الروح للجسد,لتبدأ حياة جديدة مشعة بالنور والامل ,والجاذبية,والروحانية ,والعشق ,والتوحد,والانتصار لا الانكسار مرة أخري,والاقتراب والاحتضان,لا بعد ولا أفتراق يكون,بعد هذا اللقاء المنتظر,اللقاء بعد فراق طويل خير من ليلة الزفاف والعرس,فرحة لا بعدها ولا قبلها ,واحساس لا يوصف ولا يمكن ان توصفه كلمات,انه الهيام والروح الواحدة في جسدين ,النبض والقلب, والحس والارتجاف,والرجفات,اللهفة والشوق,انه الحب الحقيقي سليم المذاق ,وطيب المنبت والبدء,انه شعلة الحياة
قد وصلت لبيت حبيبة قلبي ,وها هي تقف أمامي في شرفة البيت الأرضية,تقف وتداعب قطتها البيضاء “سكر”,ما هذا الجمال والنور الذي شع في وجهي وملئ عيني وفاض ,ليملئ جسدي ,يخطفني ويأخذني اليها بعشق وأحتضان ,عندما رأتني نظرت لي بلهفة وأشتياق ,فزادت سرعات نبضات قلبي ودقاته ,فلم أستطيع الاستمرار في النظر اليها,خوفا ان يتوقف القلب عن النبض,فتفارق روحي الحياة ,قبل ألمس وأستشعر وأحس بها بأقتراب وقرب,وقد جاءت لحظة القرب,لكانها فجاءة أستدارت بوجهها عني,وأعطتني ظهرها ,واختفي وجهها من أمامي وظلت علي حالتها واقفة لم تتحرك من شرفة بيتها الارضية,ذهبت اليها مسرعا ,مناديا لعلها تستجيب لقلبي الحاني المتعطش لرؤيتها وسماع صوتها,والاقتراب منها,الاقتراب أصبح حقيقة,رؤيا العين ,لم يتبقي سوي خطوات قليلة معدودة ,لنلتحم كلحمة واحدة وروحين معلقين بحبا وعشقا عميق ومتعمق في القلب,وفجاءة أدارت وجهها بكامل جسدها الرشيق المتماسك علي الارض بثبوت وثقة,وأخرجت مسدس من جيبها ,وصوبته نحوي ,واطلقت الرصاص علي قلبي ,فأمتلئ قميصي الابيض دما ,وسقط علي الارض ,ناظرا اليها ,ناطقا اسمها شهر,شهرزاد ,شهر,لماذا فعلتي ذلك يا حبيبتي ,انا احبك ,وظللت أكررها لعلها تستفيق وتلحق بي قبل ان تفارق روحي الحياة ,معلنا نهاية قصتنا بالموت ,لم تنظر لي ولم تهتم لما أقول,كأنها أصبحت حجرا متحجرا,قاسيا ,لا قلب من دما يضخ الحياة في شرايين البشر ,لم تكن مدركة لما اقول ,كأنها غائبة عن الحياة ,فاقدة للوعي والحس,هل تكون تلك نهايتنا ,يا الله
– وحيد يا وحيد قوم يا حبيبي,الساعة بقيت عشرة الصبح
-مين ,ايوة يا امي ,استغفر الله العظيم واتوب اليه
-مالك يا حبيبي,قايم مفزوع ليه.
-الحمدلله يا امي
حكيت لوالدتي حلمي,وفسرته لي, كما فسرته جدتي بالسابق لعمي حسان العاشق الولهان,وفرحت وتمنيت من قلبي ان يتحقق تفسير والدتي لحلمي ,لقد تذكرت الكلمات التي قالتها جدتي وكانها تجلس بجواري وامامي الان,ان ما كتبه الله سيكون لا محالة منه ,المهم ان نؤمن بذلك بالقلب والعقل ,وان يكون الايمان بالفعل لا بالقول,ان الله قادر ,يغير ولا يتغير ,نعم المولي ونعم الوكيل ,وصدقت جدتي فيما قالت .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق