الأدب و الأدباء

فاطمة رواية لسامية أحمد

‎بسم الله
‎الحلقه رقم(4)من روايه فاطمه

الناشره /رانيا يوسف
………………
تعجب عندما نظر الى الساعة الموضوعة على الطاولة الصغيرة التي بجوار الفراش وقد وجد الوقت قد تأخر كثيرا, فضحك ضحكة هازئة قصيرة تمتلئ بالسخرية المريرة والغيظ : يا الهي! لو جمعت عدد الكلمات التي سمعتها منك منذ أن تزوجنا من أربعة أشهر لعددتها على أصابعي, والآن نحن نتناقش منذ أكثر من ساعة ونصف, ولم يكف لسانك عن الكلام والمجادلة
ولكني أحب أن أطمئنك, لست بهذه الدونية لأترك جدي جائعا في دار للمسنين بلا مال
جدي يدفع إيجار الدار بانتظام و معاشه وأملاكه يضمنون له حياة كريمة لمدة طويلة كما أن عمي عرض عليه أكثر من مرة أن يرسل له تأشيرة هجرة ليعيش معه في الخارج, لكنه يرفض أن يغادر مصر, لديه كل الفرص ليختار أين سيعيش, في بيته أم في بيت ابي, أو عند عمي
………………
‎جدي يدفع إيجار الدار بانتظام و معاشه وأملاكه يضمنون له حياة كريمة لمدة طويلة كما أن عمي عرض عليه أكثر من مرة أن يرسل له تأشيرة هجرة ليعيش معه في الخارج, لكنه يرفض أن يغادر مصر, لديه كل الفرص ليختار أين سيعيش, في بيته أم في بيت ابي, أو عند عمي أو في الدار قالت بحسم دون أن تلتفت إليه : هو لديه الفرصة ليختار, أما أنت فقد اخترت بالفعل
‎كاد أن يستمر في الجدال لكنه لم يستطع, ففضل أن يصمت, فهذه الفتاة التي ترقد بجواره لا حل لها, إن أرادت الصمت لما استطاع مخلوق أن يخرج منها كلمة, وإن أرادت الكلام والجدال فلن يستطيع الانتصار على منطقها وحجتها أبدا ألقى برأسه على الوسادة لكن النوم أبى أن يأتيه
‎كانت كلماتها تدور في رأسه تحرك عروق القلق والغضب والغيظ, وما أثار غيظه الشديد هو أن أول مرة ينطلق لسانها معه يكون هذا الحوار السخيف والجدل المثير للأعصاب لكن آخر كلمة قالتها هي التي ظلت في عقله حتى الصباح(أما أنت فقد اخترت بالفعل)
‎ما الذي اختاره؟ وما علاقته هو ليختار لجده أو يفرض عليه رأيه؟
‎لكنه في النهاية توصل لمعنى أطار النوم من عينيه وأشعل الضيق والغيظ في قلبه, هل كانت تقصد أنك قد اخترت أن تتخلص من جدك وتلقي بعبئه إلى آخرين ولو كانوا غرباء عنه؟
‎لو وضع تلك الجملة إلى جانب بقية الجمل التي كانت ترشقه بها منذ بداية الحوار لصار الأمر كقطعة بازل ناقصة في لوحة لن تكتمل إلا بها
‎وأخيرا هزمه النوم

‎أخيرا هزمه النوم, لكنه لم يستمتع به, ولم يشبع منه, ففي الصباح الباكر أيقظته يداها, تمنى لو صرخ في وجهها, أو صفعها, أو خنقها بيديه, فهي التي أطارت النوم من عينيه طوال الليل, وهي الآن التي تحرمه من الاستمتاع به لكنه من جديد يصمت أمام ذلك الوجه الصبوح, ورغم أنها نادرا ما كانت تبتسم, إلا أن جمال عينيها وحده بألف ابتسامة
‎قالت بصوت هامس قلق : عليك أن تنهض الآن قال وهو يحاول أن يفتح عيناه بصعوبة : ماذا حدث؟
‎قالت باهتمام : جدك يستعد للرحيل الآن اعتدل في الفراش وأزاح الغطاء وأخذ يفرك في عينيه وهو يسألها : لم! كم الساعة الآن؟
‎قالت: الثامنة
‎ثم أكملت بصوتها الهامس ولكن بحزم : عليك أن تستبقيه, إنه حتى لم يتناول إفطاره, لم يشرب كوبا من الشاي كان عليه العودة للنوم من جديد, فهو أكثر من يعرف عناد جده وتصلب رأيه, لن يستطيع أن يثنيه عن إصراره, كما أنه لم يأخذ قراره بعد في حديث ليلة أمس
‎لكن شيء ما منعه من النوم, أهو صوتها الهامس الآمر الذي لا يقاوم! أم جمالها الآسر!
‎أم تلك الصورة الجديدة التي رآها عليها ليلة أمس, صورة المناضل العنيد الذي يدافع عما يؤمن به باستماتة لم يعلو صوتها, ولم تغضب, ولم تتلفظ بأي لفظ عنيف, كانت هادئة إلى أبعد الحدود, ولكنها أيضا كانت قوية وعنيدة في تمسكها برأيها صورة أشبه بالصورة التي رآها عليها أول مرة, ولكن مشاعره هذه المرة مختلفة تماما, لم يعد بداخله أية رغبة للانتقام على العكس, كانت هناك مجموعة كبيرة من المشاعر عجز أن يحدد أي منها أو حتى يفهمه, كان كل شيء مختلط في عقله, لكن ما وضح إليه في تلك اللحظة هو أنه مستحيل أن يؤذيها أو يجرح مشاعرها , كان مستسلما ليديها بشكل عجيب وهي تجره من الفراش وتدفعه نحو الحمام ليغسل وجهه ويفتح عيناه ويفيق أسند كفاه إلى طرفي الحوض, وفتح الصنبور وسال الماء أمامه, لكنه لم يتحرك وأغمض عيناه ولما وجدته هي ساكنا وعيناه مغمضتان, أخذت تحثه بكلماتها : هيا, جدك سيرحل الآن,سيخرج إن لم توقفه لم يبدو عليه أية حركة, كان الدوار الذي في رأسه يبقي عيناه مغمضتان, ولم تجد هي حلا إلا أن تملأ كفها بالماء وتنضح على وجهه برفق
‎انتفض من المفاجأة وفتح عيناه على وسعهما, فلم يتوقع أبدا تصرفا كهذا يصدر منها
‎هتف محاولا إبعاد يديها : حسنا, حسنا لقد استيقظت لكنها استمرت تنضح الماء على وجهه بإصرار, وكفها يمسح وجهه حتى تأكدت أنه أفاق
‎أغلقت الصنبور وسحبت المنشفة من خلفها وناولتها إياه, فتناولها منها ووقف ساكنا لا يتحرك ووجهه يقطر بالماء كان شاردا يتأمل ذلك الوجه الملائكي وهو يفكر في كلامها وتصرفاتها
‎وبقدر تعجبه من تصرفها هذا الذي قامت به لأول مرة, لكنه كان متعجبا أكثر من نفسه, كيف سكت ولم ينفعل أو يغضب والماء البارد يجري على وجهه بعد أن أيقظته من نومه الذي لم يهنأ به؟
‎والأشد عجبا هو استسلامه التام لها ولما تطلبه منه دون أن يستطيع الاعتراض وكأنما هو منوم مغناطيسيا أرادها أن تظل واقفة أمامه لأطول وقت ممكن, أراد أن يستمتع بتأمل تلك الملامح الوديعة دون أن يعكر صفوها خوف أو غضب أو ضيق أو قلق لكنها قطعت عليه لحظات شروده قائلة : هلا انتهيت من فضلك, أخشى أن يكون جدك قد وصل إلى سلم العمارة
‎خرجت من الحمام , وأمسك هو بالمنشفة وأخذ يجفف وجهه بعصبية وشعور بالضيق يستولي عليه خرج خلفها بصمت, وألقى بالمنشفة على الفراش, وخرج إلى الصالة ليجدني, وقد ارتديت حلتي استعدادا للرحيل هتف بي : يا جدي, ما هذا البكور!ألن تنتظر حتى نتناول إفطارنا سويا؟
‎التفتت فاطمة إليه وعلى وجهها تعبير غاضب أخفته سريعا حتى لا ألاحظه, واندفعت تقول بإصرار: أخبرني يا جدي بصدق, هل ضايقك شيء وأنت هنا معنا؟
‎قلت بدهشة: بالتأكيد لا
‎قالت برجاء: هل أزعجناك أو تثاقلنا عليك
‎قلت: لا يا صغيرتي, لم تقولين هذا!
‎قالت : إذا فأنت لا زلت تعتبرني غريبة عنك
‎قلت نافيا: تعلمين أن هذا ليس صحيحا
‎قالت بعتب : إذا لم تريد أن تتركنا وترحل؟ إن مكانك هنا, وإن لم تحملك الأرض فمكانتك في قلوبنا وعيوننا عظيمة يا إلهي! كيف يمكنني مقاومة ذلك الأسلوب الآسر!!!
‎صمت تماما أمامها محاولا السيطرة باستماتة على ذلك الشلال الهادر من مشاعر الأبوة الذي انفجر في قلبي تجاهها بعد أن ظننت أنه نضب تماما في السنوات الأخيرة, وابتلعت الدمعة التي تصر على الخروج من بين جفوني, ويبدو أن شادي أيضا تأثر فقال جملته العقيمة التي طالما كرهتها : جدي, عليك أن تبقى, تعلم أننا أصدقاء منذ زمن وأنا أحبك نظرت إليه نظرة يفهمها هو جيدا, وقلت في محاولة يائسة لإيجاد أي تبرير يخرجني من البيت (وكنت أتمنى غير ذلك) : أعلم طبع حفيدي جيدا, يحب الحرية في بيته ولا يريد لأحد أن يقيده بشيء انتفض شادي وقال بسخرية تمتلئ بالغيظ الشديد : شكرا, شكرا, أسديت إلى خدمة عظيمة, وأكدت الصورة التي في ذهنها عني ضحكت ولاء بشدة, فأكمل الجد مبررا : وقتها لم أكن أعلم ما دار بينهما بسببي أثناء الليل, ولم أكن أدرك أنني بهذا أصنع منه صورة غاية في السوء في عينيها ولكني استنتجت ذلك من خلال كلماته المغتاظة
‎أما هي فلم تبالي بكل هذا, بل ازداد إصرارها وتمسكها بموقفها وهي تقول : جدي, أرجوك, إن كنت حقا تعتبرني من أسرتك ولست بغريبة عنك, فيجب أن تبقى معنا من داخلي استسلمت لها تماما قلبا وعقلا, ولكن يبقى شادي
‎نظرت إليه متسائلا فقال : نعم, يجب أن تبقى معنا, على الأقل حتى تصلح صورتي أمامها وتفهمها أنني لست نذلا يبيع جده لا أحد يفهم شادي مثلي, وعندما نظرت في عينيه أدركت أنه قد اقتنع بالفعل ببقائي معهما, ولكني استدركت قائلا : لكن أغراضي كلها في الدار, ودوائي, والـ…
‎قاطعتني بحماس كبير : شادي سيذهب الآن ويحضر كل أغراضك من الدار
‎نظرت إلى شادي الذي بدت عليه علامات الدهشة وقالت : أليس كذلك؟
‎قال : هه!! ماذا قلتي, لم أسمع جيدا؟
‎ردت بسرعة : أقول أنك ستذهب الآن إلى الدار وتحضر الأغراض
‎قال بتمثيل : لم أسمعك جيدا ولكن أظن أنكي قلتي شيئا قبل هذه الجملة
‎قلت : ما بك, هل صمت أذناك؟
‎هتف : انتظرني قليلا, لقد هلت بركاتك على هذا البيت من أول يوم, فلأول مرة أسمع اسمي يتردد هنا وبهذه الطريقة

‎نعم, ما كنت أتخيل أبدا أن الحياة بينهما على تلك الصورة, روتينية الى أبعد الحدود وخالية تماما من دفء المشاعر
‎ويوما بعد يوم كنت أفهم أن اعتراض شادي على وجودي لم يكن رفضا لي, بل ربما أنه لا يريدني أن أرى المدى الذي وصلت إليه العلاقة بينهما
‎علاقة غريبة لم أرى لها مثيلا من قبل, ربما هي أشبه بعلاقة أمة بسيدها من زوجة بزوجها
‎كانت طائعة له في كل شيء, ولكن لم يكن هناك تواصل بينهما في المشاعر أو الحوار, كان الكلام بينهما مقطوعا, وإن بدأ هو حوار تقطعه هي
‎يظهر بوضوح شذوذ الصورة عندما نتواجد أنا وهو في البيت في نفس الوقت كان الكلام والحديث والحوار كله موجه لي, أما هو فلا يحظى منها بغير كلمة أو كلمتين
‎تململت ولاء وظهر في تعبيرات وجهها الضيق وعدم الرضا, لكنها لم تتكلم حتى لا تقطع استرساله في الحكاية لكنه لاحظ ضيقها فقال: ما بك؟ تضايقتي أليس كذلك؟ وإن قلت لكي أننا كنا نتضاحك في أحيان كثيرة ونشاهد التلفاز سويا فأذواقنا متقاربة فيما نشاهده كنا نتناقش طويلا في أخبار العالم والبرامج الحوارية ومواضيعها المثيرة, ونلعب الشطرنج سويا في بعض الأحيان, وكانت تعطيني الدواء بانتظام والحقن بنفسها فقد تدربت عليها عندما كانت تعطي لأبيها الحقن وهو مريض كنا معا نشكل دائرة منسجمة هو خارجها أدركت من كل هذا أن جوارحها فقط معه, أما قلبها وعقلها ففي وادي بعيد تماما عنه, وكان هذا ما يحز في نفسي بشدة, ولكم بت الليالي مؤرق أبحث عن حل لهذه المعضلة, فهو حفيدي الذي أحبه كثيرا ويسعدني ابتعاده عن شلة الفساد التي كانت تلاحقه, فلم يعد يسهر معهم يوميا كما كان, بل يكتفي بيوم أو يومين في الأسبوع لكن تلك البرودة الثلجية التي تسري في حياته قد تجعله يمل ويعود إلى ما كان عليه من قبل وما أهمني أكثر أنه قد يطلقها مثلا, وعندها سأفقد تلك الابنة الحنون التي ظهرت لي على الكبر ولكن, لم أكن أجرؤ أبدا على التدخل في حياتها الشخصية, فبرغم معاملتها الممتازة لى, لكنها لم تناقش أبدا علاقتها بشادي أمامي أو تتحدث عنه, كانت تتعامل مع الأمر بتجاهل غريب, وبعد كل ما فعلته لأجلي, ما كنت لأضايقها أو أقتحم حياتها رغما عنها لكن شادي أظهر لي بعضا مما يعانيه عندما عاد من عمله يوما وسمع صوت ضحكاتها تتردد ونحن نلعب الشطرنج وهو يفتح باب الشقة بمفتاحه, ورأيت في عينيه نظرة غريبة لأول مرة أراها, حاول أن يداريها خلف ابتسامة مفتعلة لم تجدي نفعا جلس بجواري على الأريكة ووضع على الطاولة الصغيرة التي بجوار الأريكة اللابتوب والسترة وسلسلة المفاتيح
‎ولاحظت أنا وهو أنها صمتت تماما مع دخوله, قال بصوت بدا لأذني أن فيه رنة يأس قوية : من الجيد أن يدخل الإنسان إلى مكان ويسمع الضحكات تتردد فيه
‎نهضت فجأة من كرسيها, فقلت بدهشة : إلى أين؟
‎قالت سأعد الغداء بسرعة تناولت السترة والجوال والمفاتيح وأمسكت اللابتوب, ولكنه أمسك معصمها وقال بهدوء فيه رنة رجاء : فلينتظر الغداء, لست جائعا, أكملي دور الشطرنج
‎قالت بآلية كبيرة : إنه موعد الغداء
‎سحبت معصمها من كفه وحملت أغراضه وذهبت لتضعها مكانها, فهتفت قبل أن تخرج من الغرفة : ودور الشطرنج!!!
‎قالت وهي تغلق الباب خلفها : اعتبرني مهزومة
‎بمجرد أن أغلقت الباب زفر شادي بضيق كبير قلت بسخرية لم أكن في الواقع أقصدها : ما بال ساحر النساء! أيعجز عن كسب قلب زوجته!!
‎قال بسخرية مريرة : يبدو أن سحري نضب, هلا أخبرتني من أين لك بكل هذه الجاذبية! ومن أين أحصل على بعض منها؟
‎قلت بدهشة : أنت جاد حقا!!!
‎قال بيأس : لا أدري كيف أتصرف معها؟
‎قلت بتعاطف: أخبرني يا ولدي, هل هي زوجة صالحة, أم أنها لا تطيعك؟
‎قال : أخبرتك من قبل أنها تمارس دورها بمثالية كبيرة, تطيعني نعم, لكنها طاعة كالأفلام القديمة, طاعة سي السيد, أو بمعنى آخر طاعة العبيد أتعلم أنك منذ أن جئت إلى هنا وأنا أكاد لا أعرفها كما لو أن روحها أزهرت وتجددت مشاعرها, أصبحت تضحك وتثرثر وتعبر عن ما تحب وما لا تحب
‎قلت : لم لا تغير من أسلوبك معها؟ أين هي شخصيتك؟
‎قال بيأس : لا شيء يجدي معها, أنا شادي الذي كانت تجري خلفه أغلب نساء النادي أعجز عن إضحاكها أو إسعادها
‎أخبرني كيف تفعل أنت ذلك!!
‎قلت وأنا أتألم لأجله من داخلي: كل ما أستطيع أن أقوله لك هو أنها فتاة طبيعية للغاية, قد تكون مختلفة عن كل من عرفتهن قبلا, ولكن انظر في نفسك أنت, ربما يكون أسلوبك هو الغير طبيعي
‎هتفت ولاء بغيظ: لا يمكن أن تكون فتاة طبيعية, إن ما تحكيه لهو منتهى التناقض, لا يمكن أن تكون فتاة ملتزمة فاهمة لدينها وتعامل زوجها بهذه الطريقة
‎قال برنة حزينة: أتعجبين لتصرفاتها؟
‎قالت بغيظ: لا يمكن أن تستمر الحياة هكذا
‎قال بأسى : ليت الأمر قد استمر هكذا
‎كنت أحدث نفسي كل يوم وأنا أرى فترات صمتها تطول , وبعد أن كانت تجلس بصحبتي أغلب النهار أجدها تنسحب لغرفتها بحجج مختلفة بعد أن تقوم بواجباتها المنزلية على أكمل وجه وتعطيني دوائي وحقني وتسألني كعادتها أتحتاج لشيء؟
‎كنت أراها كزهرة تذبل تدريجيا, وحاولت كثيرا أن أسألها عما بها, لكنها كانت تتجنب الحديث بكلمات قليلة مفادها أن ليس بها شيء وكان على الصمت في كل مرة يبدو أن العدوى سرت في البيت كله وأصبح الصمت هو ضيف ثقيل دائم في البيت, لكن ما جعلني أصر على التدخل ومحاولة إصلاح الأمر هو شادي فقد جلس إلى يوما وهي نائمة في غرفتها وسألني : أخبرني بصدق ما بها؟
‎حاولت قدر استطاعتي ألا أقسو عليه وأنا أقول : المفترض أن أسألك أنا هذا السؤال, فمن أقرب إليها منك؟
‎قال بضيق: لا تريد أن تتكلم
‎قلت : أخبرني, ما الذي استجد بينكما لتسوء العلاقة إلى هذه الدرجة؟
‎قال بحيرة : الغريب أن العلاقة لم تسوء بيننا, لا زالت كما هي, لكن ما استجد أنها أصبحت شاردة باستمرار, حزينة تماما, حتى أنت لم تعد تتحدث اليك وتضحك وتثرثر كما في السابق
‎كما لو أنها, أنـ.., لا أدرى كيف أصفه, ولكني أشعر وكأن شيء ما أظلم بداخلها, وكأن روحها تموت ببطء كنت أستمع إليه مفكرا, ما الذي يمكن أن يفعله ذلك البائس ليحيل تلك المخلوقة الجميلة الطيبة إلى جسد بلا روح لكن ما أهمني أكثر هو ما قاله عنها : أتعلم أنني في أحيان كثيرة أستيقظ ليلا فأجدها تبكي على سجادتها فأتصنع النوم ربما أعرف ما بها فأجدها تتألم في صلاتها وتشكو لربها صدقني لم أعد أحتمل, لقد تكرر هذا الموقف كثيرا, ولا أستطيع حتى أن أواجهها, كنت أظنها تعتبرك صديقا وسوف تصارحك بكل ما يؤلمها, ولكن يبدو أنها أغلقت كل الأبواب والنوافذ بينها وبين الناس
‎قلت بإصرار : دع لي هذا الأمر, مهما يكن يجب أن تتحدث الى أحد ما
‎ألاحظ أنها لم تغادر البيت أبدا منذ أن جئت عندكم من شهرين
‎قال بمرارة : بل منذ أن تزوجنا منذ 6 أشهر لم تغادر البيت مرة واحدة سوى المرة التى زرناك فيها حتى أغراض المنزل من خضر وفاكهة تحضرها زوجة البواب
‎قلت بضيق : وتريدها ألا تجن!! أتظن أن هذا طبيعيا!! لم لا تخرجان للتنزه
‎قال بإحباط : ترفض باستمرار
‎هتفت بعجب : يا إلهي!! ما الذي يحدث في هذا البيت!!!
‎انتظرت حتى خرج شادي إلى عمله وانتهت هي من أشغالها, وعلاجي وكالعادة قبل أن تختفي في حجرتها تسألني أتحتاج لشيء يا جدي؟
‎قلت بجدية : نعم, اجلسي أرجوك
‎جلست أمامي وهي تتجنب النظر في وجهي كما لو كانت تدرك ما سأقول قلت بهدوء وأنا مصر من داخلي أن أجعلها تتكلم : أخبريني يا ابنتي, ما الذي يحدث بينك وبين شادي؟
‎صمتت ولم ترد
‎قلت بإصرار : منذ أن دخلت بيتك وأنا أرى وأسمع وأكتم في صدري, هناك شيء غير طبيعي ويجب أن تخبريني به قالت والدمع يبدو واضحا في عينيها : لا شيء
‎قلت برجاء : اسمعيني يا بنيتي, إن كنتي حقا تعتبرينني جدك ولست بغريب فأخبريني ما الذي يؤلمك وتكتمينه في صدرك؟
‎بدا الدمع أوضح بكثير في عينيها ورغم ذلك فلم تتكلم
‎قلت وصبري يكاد ينفذ : إن لم تخبريني فسأحمل أغراضي وأرحل دون عودة, وصدقيني أنا جاد تماما ومصر
‎هتفت ولاء بشغف كبير : وأخبرتك أليس كذلك؟
‎ضحك الجد من أسلوبها وقال : لا يمكنك الصبر, أليس كذلك؟
‎قالت بتسرع: أرجوك أخبرني ما الذي حدث
‎قال بتلذذ: ألم يحن موعد العلاج بعد؟نظرت في ساعة يدها
‎وقالت وهي تنتفض: نعم, هذا صحيح ضحك الجد كثيرا وهو يراقبها وهي تجري خارجة, ثم تعود بسرعة حاملة علاجه كان من الطريف رؤيتها وهي تتحرك بعجلة, تريد أن تنهي عملها بسرعة لتعود للقصة غابت قليلا في الخارج ثم عادت بسرعة لتجلس في نفس الكرسي وتقول : الحمد لله, أنهيت دورة العلاج, واطمأننت على باقي المرضى والأمور مستقرة هيا أكمل
‎تنهد الجد بأسى وبدأ يكمل

‎هل رأيتي يوما قمرا يبكي؟
‎قالت بسرعة: هي أليس كذلك؟
‎قال بحزن : نعم, كانت تنتحب أمامي ودموعها تغرق وجهها, وقلبي يتمزق إلى قطع متناثرات, فالقمر يبكي أمامي ولا أدري ما به صمت تماما وتركتها تسكب أمامي آلامها ودموعها التي يبدو أنها أخفتها طويلا, مما جعلني أتساءل : ترى, ماذا سيكون شعور شادي إذا ما رأى ذلك المشهد؟
‎هدأت قليلا فقلت بتعاطف : أريحيني يا بنيتي, ماذا فعل بك شادي؟ صدقيني سأآذرك وسأعاقبه عقابا لا يمكن أن يتخيله, فقط أخبريني تنهدت بيأس وأنا عاجز أن أستخرج منها كلمة, لكنني لم أيأس وحاولت من جديد : أعلم أن زواجكما لم يسير بشكل طبيعي من البداية, لقد حكي لي كيف تعرف عليك, وكيف أجبرك على الزواج منه, وأقسم بالله أنني لم أكن موافقا أبدا على هذا الزواج, لقد طلب مني أن أشهد على عقد زواجه وأسانده أمام أسرته, ورفضت رفضت لأنه ليس زواجا أخيرا أفلح الأمر وتكلمت ببطء ودموعها تكسو خديها : منذ أن التقينا لأول مرة وهو يشن على حربا لا أدري لها سببا, لا أعلم بالضبط ما الذي فعلته ليضعني في رأسه ويصر على الانتقام مني!
‎صمت تماما وأنصت لها وهي تسترسل في حديثها : قضيت ليالي طويلة أتساءل, ما الذي يضطر إنسان لدفع كل تلك المبالغ ويشترى ديون المحل فقط لينتقم مني فقط بسبب موقف سخيف ومشادة غبية قد يحدث له أكثر منها في أي مكان يدخله
‎كنت أعتقد أنه لو تشاجر مع رجل وضربه فلن يفعل به ما فعله بي, مما جعلني أعتقد اعتقادا راسخا أنه فقط يريد إذلالي وتحطيم كرامتي لأنني بالنسبة إليه الطرف الأضعف, وتأكد لي ذلك بعد أن صرح به أمامي أكثر من مرة
‎همست وأنا أضغط على أسناني بغيظ: الأحمق, الأرعن!!
‎أكملت : كنت مذهولة تماما عندما عرض على الزواج ومعه مفتاح لحل كل مشاكلي المادية, ما الذي يضطره لفعل هذا وما هدفه؟ لا يمكن أن يكون حقا راغبا في الزواج مني لم يكن هناك سبب سوى السبب المعلن دائما في كل لقاء لنا ولا يستطيع أن يخفيه وهو الانتقام مني وإذلالي
‎وهناك سبب آخر ظهر مبطنا في أكثر من مرة خلال حديثه وهو أن يكشف وجهي أدركت أنني قد حوصرت أنا وأهلي, وأن على أنا وحدي عبء التصرف واتخذت القرار بأهون الضررين, كنت على يقين بأنني لو رفضت فلن أدفع الثمن وحدي وأن انتقامه سينال أبي وأسرتي
‎كما أن المكاسب التي ستأتينني من وراء هذا الزواج هي كل ما تمنيته, لذلك قبلت وأنا أعلم أنه ليس زواجا بقدر ما هو عقد بيع, لقد بعت له نفسي واشتريت أبي وأسرتي والمكسب لي
‎هتفت بغضب عارم : لا, كان عليك أن ترفضي, هذا الزواج خاطئ من البداية, لقد أكرهك, استغل حاجتك للمال ولوي ذراعك
‎قالت بصوت قوى : أستطيع أن أوهم نفسي أنني ضحية وألقي عليه باللوم كله, أستطيع أن أصوره في صورة شيطان لأرسم نفسي في صورة ملاك
‎لكن الحقيقة ليست كذلك لقد عرض على عرضا وتركني أفكر واخترته بإرادتي الحرة
‎هتفت بغضب : ماذا تقولين؟ أتجرئين على هذا القول أمامي, أنسيتي ما فعله بك؟
‎نظرت إلى بدهشة وقالت ببطء تتكلم مثل أبي!
‎نظرت إليها بصمت وكأنني أفيق على حقيقة توارت بداخلي طويلا
‎لقد اتخذت تلك الفتاة مني مكانة أقرب الأقربين, لقد صدقت الآن أن ما كنت أتمناه واعتبرته حلما أصبح حقيقة مستقرة في نفسي وصدقها عقلي وآمن بها قلبي وهي أن تلك الفتاة هي في مكانة ابنتي التي لم أحظى بها في الحياة, بل وأكثر تجاوزت عما قالته وقلت غاضبا : كان يجب أن ترفضي, ما كان عليك أن تلقي بروحك في هذا الجحيم
‎قالت بسخرية مريرة: وهل تعتقد أن الرفض مجاني؟
‎قلت بدهشة: ماذا تعني؟
‎قالت : أعني أنني فكرت في الأمر بعقلية التاجر, لقد تعلمت من السنوات الطوال التي قضيتها في المحل أن لكل شيء ثمنه, لو عاملني بأقصى قدر من الشهامة لطالبني بتسديد ديوني, وأنا لا مال لدى ولم يكن من الممكن أن أقف متفرجة وأنا أرى المحل والأسرة وصحة أبي وكل شيئ ينهار أمامي ورغم ذلك فقد كان بإمكاني أن أرفض, كان لدي ألف وسيلة ووسيلة لأقنع نفسي أنه غير كفء لي لو ذهبت إلى أي مفتي لقال لي لا تقبلي, فشاب له علاقات نسائية ويشرب الخمر لا يمكن أن يكون أمينا على وعلى ديني ولم أذهب بعيدا, لو أخبرت أبي أن هناك من يبتزني باسم الزواج لأوقفه عند حده حتى لو تحمل السجن والتشريد في سبيل حماية بناته
‎قلت بعصبية : ولم لم يفعل ذلك
‎نظرت إلى نظرة لائمة وقالت : لأنه لا يعلم أي شيء عن الأمر, أتظن أن والدي من النوع الذي يبيع بناته!!!
‎لو كان الأمر كذلك لصار الآن مليونيرا
‎زفرت بضيق وقلت : ألم تخبرينه؟
‎قالت : بالتأكيد لا, كل ما قلته له أن هناك شاب غني يطلبني للزواج, ولكن أهله يرفضون
‎قلت ساخرا : ولم تكذبي!!
‎قالت : لقد قضى أبي ليلة كاملة يحاول إقناعي بالعدول عن هذا الزواج, فمن وجهة نظره أن العائلة لا بد أن توافق وإلا لصارت حياتي جحيما, وأنني سأندم أشد الندم فالزواج ليس ارتباط شخصين, بل هو ارتباط بين عائلتين ولكني كنت متصلبة الرأي, وتحججت أمامه بآلاف الحجج من أمثلة أنه غني, أنها فرصة لا تعوض, لقد جعل مهري بضاعة للمحل, لو لم أتزوج الآن لفاتني قطار الزواج… وأشياء كثيرة من هذا القبيل
‎وأخيرا تركني أنفذ ما برأسي الحجري كما كان يقول لي
‎قلت بدهشة: ولا زال يصدق أن كل مشكلاتك مع أهل زوجك فقط!!
‎خفضت رأسها وقالت بصوت خفيض : لقد خاصمني
‎يا الله!!!
‎يكاد عقلي أن يجن, من أين لفتاة في مثل هذا العمر بكل هذا العقل!!
‎ترسم خطة محكمة وتخفي عن كل الناس سر زواجها وتتحمل وحدها كل هذه المعاناة
‎صرخت بغضب : لا, لست مقتنع كان عليكي أن ترفضيه, كان عليكي أن تكوني أكثر ثقة بالله, بالتأكيد كان يمكن للأمر أن يحل بطريقة أخرى
‎أنت ملتزمة ومتدينة وتعلمين أن…
‎قالت : لو فكرت بهذه الطريقة فلن يكون لي مكان على الأرض, يا جدي, إننا نعيش على الأرض ولسنا في الجنة لا يمكن أن ألغي عقلي وأجلس في بيتي امتثالا لتفسير الآية (وقرن في بيوتكن) في انتظار معجزة تهبط على من السماء تحل لي كل مشكلاتي لو كنت أريد ذلك لفعلته منذ زمن طويل, منذ أن نزلت للعمل في محل النظارات وبدلت قلبا آخر مكان قلبي واستبدلت صوتا آخر مكان صوتي, وأجبرت نفسي على التعامل مع نوعيات أشباه البشر وشخصيات مريضه تطل على يوميا لا لتشتري ولكن لتتسلى عصر المعجزات انتهى ياجدى, ولم يتبقى لنا سوى العقل نستعين به وهذا هو ما فعلته, لقد اخترت بعقلي
‎قلت بغيظ : لا تقولي اخترت, بل قولي فرض على فرضا
‎قالت : أستطيع أن أقضي العمر أبكى حظى التعس الذي وضعني تحت رحمته, وأقول لنفسي أنه اختطفني
‎قلت : أوليست هذه هى الحقيقة!!
‎قالت : الحقيقة لها ألف وجه, هناك من يصدق ويوقن بأنني اختطفت الشاب الغني الوسيم من أهله وتزوجته رغما عنهم أليس هذا هو رأي أمه وعائلته وأصدقاءه؟
‎صمت تماما أمام منطقها الغريب, فقد أذهلني عقلها حقا
‎قالت لقد تم كل شيء برضا منا نحن الاثنان, وكل منا نال المكاسب التي يريدها, ما كنت أحلم يوما أن ديون المحل يمكن أن تختفي بين يوم وليلة كانت التجارة تسير على ما يرام ولكن مرض أبي أكل الأخضر واليابس, أكل كل مكاسب المحل وإيراده, وبدلا من أن أسدد الديون كنت آخذ من الموردين وأبيع وأصرف المال على علاج أبي, حتى بدأ يتهددنا شبح خسارة المحل بما فيه وضياع مصدر رزق العائلة الحقيقة أنني لست ناقمة عليه بقدر ما أنا ممتنة له لقد أنقذ المحل ورفع عن أبي ديونه ولكني كنت موقنة أن زواج كهذا مبني على عدم التكافؤ وعدم إخلاص النية في بناء بيت سليم لن يدوم أبدا, ولن يمضي وقت طويل ويمل مني لأعود إلى بيت أبي بلا ديون وبلا خسائر, وحتى لو استمر الزواج, فمن حقه أن يحصل على مقابل لما دفعه من مال, وما المشكلة أن أتحمل الإذلال والمهانة في سبيل المكاسب التي حصلت عليها منه
‎يمكنك أن تسميها انتهازية, طمع, حب للدنيا, منفعة, مصلحة لن ألومك, فهذه هي الحقيقة انه زواج مصلحة تأملت يديها الخالية من أي نوع من أنواع الذهب والحلي وقلت ساخرا: طمع!! بل هي الخيبة الثقيلة لو كانت امرأة غيرك لأجبرته على أن يكتب عقد الشقة باسمها, أو يشترى لها الذهب الكثير حتى لا تعود إلى بيت أبيها بيدين خاليتين مثل يديك لكانت أحالت حياته الى جحيم ونغصت عيشه وأصبحت هي اليد المسيطرة, فالمرأة إذا أرادت إذلال رجل….
‎قاطعتني بهدوء وهي تمسح بعضا من دموعها الغزيرة : أعلم كل ما ستقوله, ولكني أخاف ربي, أين يمكن أن أذهب من عذاب ربي إن منعته حقا علي؟
‎إن الحياة قصيرة للغاية, وما نتحمله فيها من شقاء لا يقارن بشقاء الآخرة, ومهما بلغت قسوة انتقامه فإن حلمي وصبري يجب أن يكون أقوى
‎قلت برفق : كل هذا جميل, ولكن هناك أساليب وطرق تأديبية على المرأة أن تستخدمها مع أصناف من الرجال كشادي
‎قالت ودموعها تسل : لم يكن يهمني تأديبه, بل الحقيقة أنني كنت أقدر له كثيرا أنه أنقذ أهلي من الضائقة المالية التي كادت أن تقضي على أبي, حتى لو لم يكن هذا في نيته, لذلك كان على إتباع الإخلاص التام معه في كل أفعالي وتصرفاتي
‎هتفت بضيق: ولم لم تتحدثي اليه؟ لم لم تواجهيه بقوة, لم لم تفهميه أنه يتصرف بطريقة خاطئة؟
‎قالت بيأس : لم يكن لدي أدنى أمل في أنه من الممكن أن يستجيب, كنت متأكدة أن هذا الأسلوب فاشل تماما مع شخصية لها عناد حفيدك, انظر إلى أين وصل بنا العناد والشجار
‎لذلك فقد اخترت أسلوبا آخر انه الاستسلام التام, فربما كسر استسلامي زهوة السيطرة لديه وأفقده الشعور بلذة الانتقام وأورثه الملل مني ليلقي بي سريعا إلى بيت أبي
‎قلت باستغراب: سريعا!!!
‎عادت دموعها تنسكب من جديد وهي تقول بألم : نعم, فقد كان يتملكني رعب هائل كلما فكرت في نوعية انتقامه وما يمكن أن يختار لإذلالي, وأشد ما كان يمر على عقلي من أفكار هو أن يجمع أصدقاء السوء ويعرضني أمامهم ليكونوا شهودا على انتصاره كما كانوا شهودا على طردي له من المحل, لم يكن لدى أدنى فكرة عما يمكن أن أفعله وقتها, ولا كيف أتصرف إن أتى بهم إلى البيت؟
‎أغمضت عيني اشمئزازا من مجرد تصور بشاعة الفكرة, وقلت مدافعا عنه لأول مرة : لا, لا يمكن أن يصدر منه هذا, إنه حفيدي, أعرفه جيدا, لا يمكن أن تكون هذه أخلاقه, أنت تتحدثين عن شادي, لا عن جندي أمريكي في سجن أبو غريب
‎قالت بألم: أنا لا أعرفه ولا أعرف أخلاقه التي تتحدث عنها
‎إن كل ما أعرفه عنه هي تلك الصورة التي تبدو أمامي كلما دخل إلى المحل وبوضوح ودون مجاملات فلم يكن هو الزوج الذي يمكن أن أأتمنه على نفسي وديني لذلك حاولت قدر استطاعتي أن أحمي نفسي بأن أشترط عليه ألا يأتي بأي إنسان مهما كان إلى هذا البيت
‎قلت بفهم : وكذلك ترفضين بإصرار الخروج معه للتنزه في أي مكان
‎قالت مبررة : لا أضمن كيف يفكر عقله ولا إلى أي مكان سيأخذني
‎أعلم أن كل هذا لن يجدي, لو أنه أراد إذلالي وكسري حقا فهناك آلاف الطرق يستطيع بها قتلي معنويا لذلك كنت أستعين عليه دائما بالله, وكان دعائي في كل سجود لله أن يسترني ويحميني ويبعد عني شياطين الإنس
‎قلت بأسى: الأحمق المسكين لم يكن له نصيب من دعائك!!!
‎قالت : كنت خائفة, خائفة إلى درجة كبيرة
‎كنت أعلم بكل المخاطر التي يمكن أن تواجهني قبل أن أتزوجه, وأبعدت أهلي تماما عن هذا البيت , كنت أخشى إن وجد لي نقطة ضعف فيهم أن يستغلها ضدي, كأن يهينهم أو يطردهم, لذلك انقطعت عنهم ورفضت أن يزوروني أو أزورهم حتى ينساهم تماما, وساعدني على ذلك خصام أبي لي
‎قلت بعد تفكير : يا إلهي!! أيمكن أن تستقيم حياة كهذه, أيمكن أن يستمر زواج كهذا قائم على الخوف وتوقع الشر من الآخر!!
‎الآخر الذي يجب أن يكون هو الحارس والحامي والسند والنصير!!
‎قالت ودموعها تغرق خديها : حاولت كثيرا أن أحيد مشاعري تجاهه, حاولت قدر استطاعتي ألا أكرهه قضيت ليالي طويلة أحاول أن أمحو الصورة التي تمنيتها في الرجل الذي يمكن أن أوافق على زواجي منه وأستبدلها بصورة وصفات زوجي الذي فرض نفسه على وكنت أقنع نفسي كلما مر على يوم أنه ليس بدرجة السوء التي توقعتها, يكفي أنه لم يخالف أي شرط من الشروط التي اشترطتها قبل الزواج, يكفي أنه يعاملني معاملة حسنة ولا يؤذيني ولا يهينني
‎ولكن تبقى لي يقيني أن زواجي لن يدوم أبدا
‎هل.. هل عشت حياتك وأنت على قائمة الانتظار!
‎طوال النهار أتوقع أن أسمع منه كلمة الطلاق, وأقضي الليل وأنا موقنة بأني سأسمعها غدا, انه جحيم لا ينتهي, ولكن ما حيلتي؟ على أن أصبر حتى ينتهي ويقولها بنفسه دون أن أطلبها
‎أصبر يوما بعد يوم وشهر بعد شهر حتى اعتدت الصبر وألفت الانتظار وتقبلت كل شيء طالما أنني أدفع الثمن وحدي دون ضحايا آخرين لم يخطر لي ببال أن محاولاتي لإبعاد الأذى عن أهلي وتجنيبهم الشقاء, سيشقى بها إنسان آخر المفترض أن يكون هو أحب الناس الى قلبي, والمفترض أيضا أن تكون سعادته هي هدفي في الحياة
‎قلت بدهشة: من تقصدين؟
‎غلبها النحيب المؤلم, وعجزت عن فعل أي شيء سوى انتظار ما ستقوله
‎وعندما طال نحيبها قلت بقلق : من تقصدين يا ابنتي؟ أرجوك لا تخفي عني شيء
‎قالت من بين نحيبها: أنا… أنا… حبلى
‎لم أعرف هل أفرح أم أفزع, وأي مشاعر انتابتني وقتها لكني تجمدت تماما, فبعد كل ما قالته لي, وكيف سارت حياتها مع شادي من البداية في طريق خاطئ مغلق في نهايته في زيجة حكم عليها الطرفان من البداية بالفشل والآن ضحية جديدة لا ذنب لها تدخل تلك الدائرة الجهنمية
‎ما الذي يمكن أن أقوله لها لأواسيها, أستطيع أن أتفهم مشاعرها وخوفها وألمها, لقد تحملت كل شيء وتقبلت على نفسها كل شيء, ولكن كيف يمكن لأم أن تتقبل شقاء طفلها وهو يعيش ممزق بين أبوين منفصلين وكيف يمكن أن أقنع شادي وأنا أكثر من يعرفه بالتخلي عن حريته وأنانيته ليتحمل مسئولية طفل صغير فجأة انتابني سخط عنيف تجاه هذا الولد, وتخيلت ابنتي تعود إلى بيتي بعد عام مؤلم من الزواج الفاشل ورضيع على ذراعها لأواجه معها ألم الفشل في الزواج ومستقبل مظلم مملوء بالمخاوف والأسى لمطلقة شابة تجر في ذيلها طفلا لرجل تزوجها يوما ليذلها وينتقم منها ثم ألقى بها وبطفلها دون اكتراث لأي شيء أدركت لحظتها كيف هي مشاعر الأب الحقيقي وأقلقني بشدة ذلك, أعلم الآن ما يمكن أن يفكر فيه والدها عندما تعود إليه ابنته بخيبة الأمل, فقد يشتد عليه المرض, أو يخر ميتا في صدمة كتلك, لا شك أن المسكينة أيضا تفكر في هذا ولكنها أيقظتني على الصورة بكل بشاعتها وهي تقول وبكاؤها يفتت قلبي : انصحني يا جدي, كيف أتصرف؟ وماذا أفعل لو طلب مني أن أجهض الطفل؟
‎هتفت ولاء بدهشة : ياااه, إلى هذه الدرجة؟
‎قال الجد بضيق: أليس حفيدي؟ لكنها لم تخطئ بظنها فيه, بل هو أول ما طرق ذهني عندما أخبرتني بنبأ الحمل المشكلة أنني لا يمكن أن أتوقع شيء من شادي سوى هذا
‎ولاء : ولكنه خرق كل التوقعات وأبقى عليها رغم تأكيدك وتأكيده وتأكيدها بأن الزواج لن يطول إلا لأسابيع
‎الجد: ولم لا تقولين أنه يريد أن يستمتع بقدر ما دفعه من مال؟
‎تنهدت ولاء بحزن قائلة: المسكينة!! وكيف تصرفت؟ هل تدخلت في الأمر وتحدثت معه
‎قال : لا, بل قلت لها لا تخبريه كنت عاجزا تماما أمامها وخالي من أية فكرة يمكن أن تساعدها وأنا أتمزق وأنا أراها تبكي أمامي بهذه الطريقة أتدرين بماذا ردت على فكرتي؟
‎قالت: لا أستطيع أن أخفي عنه الأمر, من حقه أن يعرف, فهو أبوه شهقت فجأة وابتلعت دموعها وبسرعة جففت وجهها بالمناديل الورقية, وهي تسمع صوت مفتاحه يدور في الباب, ولكنها لم تستطع أن تخفي احمرار عينيها ولا تورمهما وبمجرد أن رآها على تلك الحالة حتى ظهر في وجهه القلق وتساءل بضيق : هلا أخبرني أحد ما ما الذي يحدث هنا بالضبط؟
‎انسحبت بسرعة إلى المطبخ دون كلمة, فالتفت إلى وسألني باهتمام: تحدثت إليك, أليس كذلك؟ أخبرني ما سر كل هذا؟ ولم تبكي باستمرار؟
‎نظرت إليه وبراكين الغضب تتصاعد بداخلي, وقلت قبل أن أنفجر فيه: ولم لا تسألها هي؟أليست زوجتك!! أم أنك تنوى أن تكمل انتقامك إلى النهاية وتلقي بها إلى سلة المهملات
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق