الأدب و الأدباء

فاطمة لسامية أحمد

 

بسم الله
الناشره /رانيا يوسف
قلت بخوف : ماذا هناك؟ ما الذي وجدته في الجوال؟
سقط منه الجوال وانطلق يجري كالمجنون بلا وعي, حتى أنه أفزع طفلته فزعا شديدا, وغادر البيت جريا دون حتى أن يغلق الباب خلفه
وأتت فاطمة بسرعة لتسألني عما يحدث, ولكنني كنت مشغولا باستطلاع جوال شادي وما وصله
وبعد أن عرفت, لم أستطع أن أصارحها بهول ما رأيت
وأخذت أفكر أين ذهب شادي الآن, بالتأكيد ذهب خلف المجرم تامر, وتوجست من أن يقتله وصارحتها بمخاوفي عدا ما رأيته في الجوال
فخافت وأخذت تدعو الله ألا يصاب شادي بمكروه وأن يرد له عقله ويحسن التصرف
أدركت أن الوحيد الذي يستطيع التعامل مع الاثنين شادي وتامر هو وليد
لذلك فقد اتصلت به وأخبرته بما حدث دون أن أذكر ما رأيته على الجوال
أخبرني بأنه سيبحث عنه في كل مكان وعندما يجده سيتصل بي على الفور
هذه المرة خاب ظني, فلم يذهب شادي ليبحث عن تامر, بل ذهب الى بيت أبيه, وعندما رأته أمه على تلك الحالة فزعت وحاولت ايقافه ولكنه تجاوزها وصعد السلم الداخلي للبيت جريا وهو ينادي رشا بغضب هائل
وعندما فتحت رشا غرفتها وجدته أمامها مباشرة وشياطين الغضب تتراقص في وجهه
أمسك بذراعها بقسوة ودفعها أمامه الى الغرفة وأغلق الباب خلفهما, لكن أمه دخلت والفزع يكاد يقتلها وقالت بخوف : ماذا حدث؟ ماذا تريد من رشا؟
حاول باستماته أن يسيطر على غضبه ويتحدث بصوت طبيعي ويقنع أمه لتتركه وحده مع رشا : لا شيء يا أمي, فقط أريد أن أتحدث معها في أمر هام, هلا تركتنا وحدنا لبعض الوقت من فضلك؟
قالت بخوف : لا, لن أتركك معها قبل أن أعرف ماذا حل بك وما شأنك برشا؟ تلك الوضيعة فتاة النظارات ماذا قالت لك لتغير قلبك نحو أختك؟
صرخ فيها : أمي, اسكتي, دعينا وحدنا الآن
لولا أنها خافت منه حقا لما تركتهما وحدهما, لكنها انسحبت خارجة وهي ترتجف من صرخة شادي وأغلقت الباب
كانت رشا تنظر الى شادي بخوف, والتفت هو اليها وقال بصوت منخفض يتخلله الغضب العاتي : أريد أن أعرف الحقيقة, ما هي علاقتك بتامر بالضبط؟
نظرت اليه بدهشة قليلا ثم ظهر على وجهها الفهم وهي تقول : فهمت, كنت أعلم أن وضيع سافل مثله لن يفوت الفرصة, وأنه كان يكذب عندما أقسم لوليد أنه لم ينسخ الفيلم, وأن النسخة التي مسحها كانت نسخة وحيدة
قال شادي بصدمة هائلة : و.. وليد!!! هل.. هل يعلم بذلك؟!!
انهار على الكرسي, وتأملت هي تعبيرات وجهه ونظرات الشماتة تطل من عينيها, وانفرج ثغرها بابتسامة ساخرة, ثم جلست أمامه على فراشها ووضعت كفها تحت وسادتها وأخرجت علبة سجائر وولاعة وأشعلت سيجارة وأخذت تنفث دخانها في وجهه باستهتار, ثم مدت اليه العلبة وهي تقول ببطء : ألا تأخذ واحدة؟
تأمل أخته بذهول والصدمة لازالت تتملكه, وشيئا فشيئا بدأ غضبه يبرد حتى هدأ تماما ولم يتبقى لديه شعور الا الذهول والدهشة والتساؤل : أهذه أخته حقا؟!! أهذه هي أخته رشا الصغيرة التي تربت معه في نفس البيت وعاشت معه عمرا
أهذه هي التي ضمه واياها حب الأخوة ورابطة الدم وألفة الحياة في بيت واحد؟!! تلك المخلوقة التي أمامه لا تشبه أبدا رشا التي كان يعرفها
مستحيل, ثلاث سنوات ليست مدة كافية ليتحول فيها الانسان بهذه الطريقة, ويتغير لهذه الدرجة
أفاق من شروده على صوتها : ماذا؟ ألا تريد واحدة؟
هزت حاجبيها باستهتار : انها ليست سيجارة عادية
ظل صامتا يتأملها بذهول فقالت ساخرة : اذا فلقد تبت وأنبت وألقيت بكل شيء خلف ظهرك!! رائع, زوجتك تأثيرها هائل, من العجيب حقا أن تكون لفتاة متواضعة مثلها كل هذه القدرة على التأثير في الرجال
وليد نفسه معجب بها للغاية ويعتبرها زوجة مثالية لك
أفاق من دهشتة أخيرا وقال بهدوء : وليد؟!!
أريد أن أفهم الآن ما هي علاقتك بتامر؟ وكيف يعلم وليد بالأمر ويسكت؟!!
قالت باستهتار : عجبا, هل تذكرت أخيرا أنك أخ وأتيت الآن لتمثل على دورك الأخوي؟!!
قال بدهشة : أمثل؟!!
قالت : صدقني, هذا الدور لا يليق بك, ابحث عن دور آخر لتمثله على وأقتنع به, أو اذهب الى زوجتك وطفلتك, فدور الزوج والأب الحنون يليق بك أكثر
صمت قليلا ثم قال بجدية : كلماتك وأسلوبك اللاذع لن يسكتني, ولن أرحل قبل أن أفهم ما يحدث وأعرف الحقيقة
قالت بشماتة : اذا فعليك أن تتحمل أسلوبي وكلماتي اللاذعة ان كنت مصرا على معرفة الحقيقة
قال بجدية : أسمعك جيدا
قالت : عندما غادرت البيت الى شقتك التي تزوجت فيها وقاطعتنا جميعا من أجل تلك الفتاة الـ…
صمتت قليلا وظهرت في عينيها كراهية شديدة, ثم ابتلعت ريقها وأكملت : اشتدت الخلافات بين أبي وأمي وأصبح شجارهما اليومي يقتصر على موضوع واحد فقط, وهو السيد شادي وزواجه
وكأنما لا شيء في الحياة يستحق التحدث عنه أو حتى التشاجر لأجله سوى زيجة السيد شادي, ونسيا تماما أن لهما ابنة أخرى تعيش معهما في نفس البيت
لم أجد سوى النادي ملاذا لي لأبتعد عن الشجار والصوت العالي
وهناك عرفني وعرفته
قال غير مصدق : وليد؟!!
ضحكت ضحكة عالية متهكمة : أنت تعرف من أقصد, لكنك لا تريد أن تصدق
أكملت بمرارة : ضمني الى شلته وظل يلاحقني بالاتصالات والرسائل
أتعلم ما هو المدخل الذي دخل الى منه؟ انه أنت
نظر اليها بذهول وعقد حاجبيه بشدة ولم ينطق
قالت بأسى : كان كل حديثه منصب عليك, وعلى صداقته بك وأنكما أعز الأصدقاء, وكلما شكوت اليه انقطاعك عنا ولامبالاتك بنا كان يدافع عنك بشدة, حتى صدقته تماما وأصبح هو ملاذي وأسرتي وأخي وحبي وكل حياتي
رنت بشدة كلمة (أخي) في أذنه وشعر بها تخترق قلبه كسهم مسموم, لكنه ظل صامتا يستمع وهي تقول : وبعد أن أصبحت أسيرة له, كان تأثيره على وحصاره لي لا يسمح لعقلي بالتفكير أو حتى بالتوقف عند أى شيء يطلبه مني, لذلك فقد أطعته تماما وتركت قلبي وعواطفي بين يديه حتى أحكم قبضته حول عنقي, ولم أدري أنه صور لي هذا الفيلم في شقته
وعندما أخبرني بالحقيقة انهرت ولم أكن أدري الى أين أذهب ولمن ألجأ, ومن يستطيع مساعدتي لمواجهة تلك المصيبة
لكن الشيء الوحيد الذي أدركته هو أن العائلات الراقية لا يجب أن يعلموا بمصائب بناتهم
وكلما زادت القربى, زادت رغبتي في البحث عن بعيد أبوح له بمصيبتي
لذلك لجأت للإنسان الوحيد الذي حذرني من البداية ونصحني أن أبتعد عنه ولم أستمع لنصيحته
قال بشرود : وليد..
قالت : نعم, وليد, ولم يخذلني, بل ساندني حتى أخرج من ورطتي وتصدى لتامر, وهدده أن يكشف حقيقته لك ويجعلك تفض الشركة التي بينك وبينه
وبالفعل أعطاه الفيلم وأقسم له أنه نسخة وحيدة, لكن وليد لم يصدقه وحذرني من كذبه, وتوقع أنه احتفظ بنسخ أخرى وصدق توقعه, وقتها كنت منهارة تماما أواصل البكاء ليل نهار
أتعلم ماذا فعل وليد؟ عرض على الزواج, وبالطبع وافقت على الفور بدون تفكير, فهو طوق النجاة الوحيد الذي امتد الى
ولكن عندما عرضت الأمر على أبي رفض, ولكنني صممت على موقفي, ودبت مشاجرة عنيفة بين أبي وأمي بسبب اصراري على وليد وعلى اثرها ترك أبي البيت, الغريب أن الاثنان كانا متفقين في الرأي برفض وليد, ولكن لا أفهم لم تشاجرا وأخذا يلقيان الاتهامات على بعضهما البعض, ولم ترك أبي البيت في هذا التوقيت بالذات, وليس قبله ولا بعده؟!!
عندها توقف بكائي تماما وتحجر الدمع في عيني, ولم أعد قادرة على ذرف دمعة واحدة
كل ما أذكره وقتها أنني كنت أشعر بكراهية شديدة لكل ما حولي, وغضب رهيب ونقمة بلا حدود
وبدلا من أن أحزن لأن أبي ترك البيت بدأت أشعر بسعادة غريبة, كان بوسعي العودة في قراري ورفض الزواج من وليد, خاصة وأنا متأكدة أنه لا يحبني وأنا أيضا لا أحبه
ولكني لم أفعل, بل تمسكت به أكثر, وبدلا من أن تكون أول خطوة هي الخطوبة صممت أن نعقد القران مباشرة
وأبلغت أبي بقراري في الهاتف, واستمتعت بشدة بغضبه وحسرته وصراخه لي في الهاتف
وأردت المزيد من المتعة, وصممت أن أذهب مع أمي وأبلغك بالخبر بنفسي, ولكم كانت سعادتي وأنا أرى تأثير ذلك عليك
ذلك الشعور الجديد أنساني تماما تلك المرارة التي قتلتني, وذلك الحزن الذي خيم على قلبي, وذلك الظلم والقهر الذي ألم بي
لكن ما رأيته اليوم في عينيك كان أروع كثيرا, لو كنت أعلم من البداية لأرسلت لك هذا الفيلم بنفسي فقط لأتلذذ وأستمتع بذلك التعبير الذي أراه على وجهك الآن
لمعت عينيها ببريق مخيف : أتعلم, أفكر جديا أن أرسله الى جوال أبي وأذهب اليه بنفسي لأرى ما سيفعله به ذلك الفيلم
كان شادي متجمدا تماما أمام تلك الروح المملوءة بالغضب والغل والنقمة على كل شيء, ولم يدري كيف يشعر الآن أمامها؟ هل يشعر بالشفقة أم بالغضب أم بالاشمئزاز أم بالتعاطف
لم يكن يدري ما هو التصرف الصحيح الذي يمكن أن يفعله الآن, لذلك فقد صمت تماما, لكن سؤال واحد استولى على عقله في تلك اللحظة وخرج مباشرة الى لسانه : لماذا يا رشا؟ لماذا تكرهينني الى هذه الدرجة؟!!
قالت بغل : أكرهك فقط؟!! ان مشاعري نحوك الآن تعدت الكراهية بكثير
أكملت والحقد يأكل حروف كلماتها : لم تعد تعن لي أى شيء, أنت لا شيء بالنسبة لي
أنا أحتقرك, أحتقرك كما لم أحتقر انسانا في حياتي
تجمد تماما من الذهول والصدمة العنيفة التى انتابته من كلماتها وهي تكمل : أتدري لم؟ لأنك سبب كل ما أنا فيه من مصائب
لقد أوقعتني بين رجلين, رجل أحببته بكل مشاعري وغدر بي لينتقم منك, ورجل سأتزوجه رغما عني وقبل بي مرغما لأنه يحبك
ضحكت ساخرة بمرارة : يحبك أنت لا أنا
أرأيت ما فعلته بي, أصبحت ماضي احترق وحاضر رماد ومستقبل لن يأتي أبدا
مجرد حياة تسير بلا هدف ولا غاية ولا رغبة ولا حب
حاولت الانتحار كثيرا, ولكني أدركت أخيرا أنه لن يأبه لموتي أحد, فعدلت عن الفكرة, وقررت أن أعيش فقط لأرى الذل والهزيمة والخزى في عيون كل من حولي
والآن عد لأسرتك الجميلة, فلقد أشبعت تماما رغبتي في الانتقام منك ولم يعد يعنيني وجودك أو عدمه
لقد شفا تامر غليلي منك, تامر هو عملك الأسود في هذه الحياة, أنت الذي أتيت به وأدخلته الى حياتنا وفرضته على أصدقائك وعلينا
والآن حان وقت سداد الحساب, ستدفع الثمن غاليا, أغلى مما تتصور, فتامر لن يتركك الا اذا دمرك تماما
وسيفعل, متأكدة أنه سيفعل, وخاصة عندما انضمت اليه الأفعى رودي
ثنائي مخيف, أستطيع أن أرى من عينيك الرعب يملأ قلبك, فلديك الآن ما تخاف عليه وتحرص على حمايته
لكن تامر سيصل اليه, هو قادر على ذلك, وأنت أضعف من أن تصده
نهض سقيما متخاذلا بعد أن هزمته كلمات رشا
فتح باب الغرفة بيد مرتعشة وهو لا يكاد يرى أمامه, لكن رشا أمعنت في تعذيبه وهي تقول بشماته : احرص على زوجتك العفيفة جيدا فأنا متأكدة أنها هدف تامر الذي لن يتنازل عنه أبدا
خرج يترنح لا يتبين ما أمامه ولم يستطع الرد على أسئلة أمه القلقة ولم يشف خوفها الشديد من منظره وعندما هبط السلم باعياء وجد أمامه وليد الذي كان يلهث والتوتر يبدو عليه جليا, وهتف بقلق : شادي, بحثت عنك في كل مكمر هام, تعالى معي
استسلم ليدي صديقه وهو يأخذه الى سيارته ويتولى هو القيادة, وأخذه وليد الى شقته ليتحدث معه بحرية, ولم ينسى وليد أن يتصل بي ويطمئنني كما اتفقنا

عندما دخل شادي الى شقة وليد, انهارعلى أقرب كرسي ودفن وجهه بين كفيه
قال وليد : لقد حذرتك من البداية, ومهما فعل تامر عليك أن تتجلد وتتحكم بأعصابك
نظر اليه شادي بضعف وقال بصوت كسير : لماذا! لماذا يفعل بي كل هذا؟!!لماذا ينتقم مني بهذه الطريقة؟!!
لقد شاركته في مشروعي ومنحته ثقتي الكاملة, وتركته يتصرف في مالي كيف يشاء
قال وليد : تامر يغار منك
فأنت بالنسبة اليه المنافس القوي الذي لم يستطع هزيمته, وكلما كنت تسير في النادي كانت الفتيات يلتففن حولك ويتجاهلنه, لم يستطع أن يتعرف على فتاة الا من خلالك, لذلك فقد حول المنافسة الى تبعية مؤقتة حتى يصل الى كل ما يريده عن طريق استغلالك
كل فتاة صادقتها لم تفلت من يده
حتى رودي صديقتك المقربة سعى اليها والتف حولها لكنه لم يصل اليها الا بعد أن تزوجت أنت
جمعهما الحقد عليك, واستغل هو كراهيتها لك لأنك أهملتها وتزوجت من فتاة لم تعرف رجلا قبلك
واتفقا أن يحطما حياتك ويدمرونك خاصة بعد أن طردت تامر من الشركة
لم يعد هناك ما يمكن أن يردعه عنك
قال شادي : وأنت!! لم لم تحذرني؟
قال : حذرتك كثيرا لكنك كنت تستهين بالأمر
أكمل بندم : أنا أيضا لم أدرك حقيقة تامر الا بعد فوات الأوان, بعد أن أحكم قبضته على الشركة وصار هو المتحكم فيها وفيك, وحتى لا تفلت من قبضته قرر أن يمسكك من رقبتك, فالتف حول أختك, وكانت خطته من البداية أن يصورها ويهددك بنشر الصور في حالة لو كشفت ألاعيبه القذرة في الشركة, ويضغط عليك حتى لا تطرده من الشركة
لكنك فاجأته قبل أن يتصرف وطردته بالفعل في نفس يوم عقد قراني على أختك, وفي الحفل رسم هو ورودي خطة أخرى للإنتقام منك وأوقعاك في الفخ بخدعتها القذرة
وبدلا من أن يهددك بفيلم واحد أسقط رقبتك في قبضته ومنحته أنت سلاحا جديدا يخرب به بيتك المستقر السعيد
لكنه فوجئ بفشل خطته وبأن زوجتك لازالت متمسكة بك, لذلك أرسل لك الفيلم القديم
تلك هي حيلة المفلس, أرجوك لا تنهزم أمامه ولا تعطيه الفرصة ليخرب حياتك, صدقني, إن صبرت قليلا فلن يجد ما يحاربك به ولن يجرؤ على فعل شيء آخر
قال بهزيمة : لكنه اقتحم بيتي هذا الصباح
قال وليد بصدمة : ماذا؟ كيف!!
قال بندم : بمفتاح قديم نسيته معه قبل الزواج
هتف وليد بدهشة : ألم تبدل قفل الباب؟!! تزوجت في الشقة وتركت نسخ المفاتيح معنا؟!! لا أصدق أنك تتصرف بتلك الطريقة البلهاء, لقد منحته فرصة ذهبية
وكيف تصرفت زوجتك؟
قال بندم : غيرت قفل الباب بعد أن طرده جدي
ابتسم وليد باعجاب : تلك السيدة رائعة للغاية, اياك أن تفرط فيها, فهي التي تقيم بيتك وتمنع عنه الزوابع والأنواء
أنا موقن الآن أن تامر لن يستطيع أن يهدم بيتك طالما هي فيه
التفت شادي اليه وقال بتساؤل : وأنت!! كيف تقبل أن تتزوج رشا بعد كل ما عرفته عنها؟
قال وليد ونبرة الأسى تغلف صوته : أنا ورشا جمعنا الألم, في البداية لم تكن بهذه الشراسة, وعندما انضمت للشلة أدركت أنها تبحث عنك فينا, لكن تامر تلقفها بسرعة
برغم أننا مختلفان في كل شيء, لكننا اتفقنا على شيء واحد, أنني وهي ضحايا لتامر
هتف بدهشة : كيف؟!
قال بأسى : بعد أن سقطت رشا في مشكلتها فهمت أخيرا لم تركتني رانيا وألقت بنفسها لأول رجل تقدم لخطبتها, هي أيضا كانت احدى ضحايا تامر
أغلق شادي عيناه بألم واشتد وقع الصدمة عليه
وأكمل وليد بمرارة : فقط لو كانت أخبرتني بالحقيقة لما تركتها تضيع من بين يدي
لكنها لم تخبرني, ولازلت أضرب رأسي بالجدار, ولا أجد اجابة لسؤالي, لم لم تخبرني رغم كل ما بيننا من حب
لقد رأيت في رشا صورة أخرى من رانيا لذلك قررت أن أصلح الخطأ الذي لم أعلم به الا متأخرا لغاية, حتى لو في حق انسانة أخرى لا يربطني بها شيء, يكفيني أنها أخت صديقي
فهم شادي لم تصرفت رانيا بهذه الطريقة عندما تذكر كلمة رشا : كلما زادت القربى زادت رغبتي في البحث عن بعيد أبوح له بمصيبتي
فهم الآن أن حب رانيا لوليد هو الذي منعها أن تخبره بمصيبتها
وفضلت أن تبتعد عنه بصمت وعن كل ذكريات الماضي الأليم
شعر شادي برجفة باردة تسري في عروقه, لم يكن يعلم ذلك الشعور الغريب الذي انتابه أهو اشمئزاز أم غضب أم خوف؟
كان مشتت تماما ومرتبك عاجز عن فعل شيء
قال بهزيمة : اذا فقد اخترق تامر كل فتاة لها صلة بنا!!
وليد بأسى : مع الأسف هذا صحيح
قال شادي بخوف : اذا فلن يتورع عن اقتحام بيتي ثانيا وثالثا
وليد : ولكنك موجود, ولن تمنحه الفرصة ليفعل أى شيء
قال بهزيمة : وأنت, حبك لم يستطع أن يحمي رانيا منه, وأنا لم أستطع حماية أختي, فكيف لي أن أحمي بيتي؟!!
قال وليد بقوة : الأمر مختلف, كنا سابقا مخدوعين فيه, لم نكن ندري الى أى مدى يمكن أن يصل شره
أما الآن فهو مكشوف لنا تماما ولن يستطيع أن..
صمت تماما عندما رأى تلك النظرة اليائسة المهزومة في عيني شادي
نهض شادي ورحل بصمت لا يدري الى أين يذهب ولا كيف يتصرف
أخذ يدور في الشوارع بالسيارة شاردا ذاهلا عما حوله, والهزيمة تزحف اليه واليأس يسيطر عليه يحطم مقاومته وقدرته على التفكير
عاد شادي الى البيت وبقي صامتا تماما ليومين كاملين, حتى أتته مكالمة على هاتفه المحمول قضت على ما تبقى منه
فقد اتصلت به رشا وأخذت تضحك في الهاتف ضحكات هستيرية, وقالت بصوت امتلأ بالشماتة : لقد أرسل أبي لنا ورقة طلاق أمي
كانت مستمتعة تماما بالصدمة العنيفة التي تلقاها شادي,فقد صرخ صرخة غاضبة عنيفة وقذف بالهاتف الى الجدار بعنف ليتحطم الى قطع
ثم ألقى بجسده أرضا وظهره للجدار وأخذ يضرب مؤخرة رأسه بعنف في الجدار وهو يغلق عينيه بألم ويصرخ : لم؟!! لم الآن؟!! لم فعلتها في هذا الوقت؟!!
أتينا فزعا على صوت صراخه وحاولنا أنا وفاطمة أن نهدئ من روعه, حتى صمت تماما وضم ركبتيه الى صدره وأخفى وجهه بينهما
لا أدرى كم بقينا نحن الثلاثة على تلك الحالة, نكلمه ولا يرد علينا
لكنه استغرق مدة طويلة حتى استطاع أن يرفع رأسه وينظر الينا
لأول مرة نرى دموعه بهذه الغزارة واليأس والهزيمة في نظراته
ولأول مرة منذ مدة طويلة أشعر أن شادي يبالي حقا بما يدور بين أبيه وأمه ويتأثر لهذه الدرجة
مسح دموعه وهو يقول : أنا بخير, دعوني وحدي, سأكون بخير بعد قليل
تركناه وحده كما يريد بعد أن هدأت هواجسنا قليلا وشعرنا أنه بدأ يصبح بخير
أغلق على نفسه غرفته لعدة ساعات, ورغم أن فاطمة كانت تطرق عليه الباب كل فترة لتطمئن وتطلب منه أن يفتح لها لتتحدث اليه, لكنه يرد بالرفض
استمر الحال هكذا حتى منتصف الليل, وأنا وهي ندور أمام باب غرفته بقلق لا ندري ماذا نفعل
حتى فتح الباب أخيرا وخرج الينا بوجه جامد تماما
ابتسمت فاطمة بارتياح وقالت بسرعة : سأحضر لك بعض الطعام
قال بجمود : فاطمة
توقفت ونظرت اليه فقال : أريد أن أتحدث اليك في أمر هام
أردت أن أدعهما يتحدثان وحدهما, وهممت بالدخول الى غرفتي, لكن شادي أصر أن أبقى وأسمع ما سيقوله
جلسنا نحن الثلاثة حول المائدة والصغيرة نائمة في ذلك الوقت المتأخر من الليل
قال شادي ببطء وكأن كلماته تخرج بصعوبة : فاطمة, أريدك أن تعودى الى بيت أبيك
هتفت بصدمة : ماذا تقول؟!!
وصمت أنا في انتظار أن يكمل أو يقول أسبابا أو مبررات
لكنه قال ما أصابنا بالجنون : عودتيني دائما على الطاعة وعدم مناقشة أى طلب أطلبه منك
والآن, أنا أطلب منك أن تعودي الى بيت أبيك
قالت بهدوء وتماسك : حسنا, تعلم أنني لا أخالفك أبدا, لكنني أحتاج أسبابا ومبرر قوي لقرار كهذا

لم أرى في حياتي شادي ضعيفا ومشتتا ومنهارا بهذه الطريقة
قال : أرجوك لا أريدك أن تفسري قراري هذا بصورة خاطئة, وتأكدى أنني أفعل هذا لمصلحة الجميع
صمت قليلا وابتلع ريقه, وبقينا في انتظار المبررات القوية, لكنه قال : علينا أن ننفصل
انتفضت من كرسيها بصدمة وقالت ببطء : هل أنت واعي لما تقول؟!!
قال وهو يحاول التماسك أمامها : هذا هو الحل الوحيد لإنهاء هذه المهزلة, يجب أن تعودي الى بيت أبيك, هناك سأكون مطمئنا عليك, وحتى أتفرغ أنا لحل مشكلاتي ومشكلات أسرتي, اذا نجحت فسنعود لنستأنف حياتنا معا
التفتت الى وقالت : هل أنت موافق على هذا الكلام ياجدي؟!!
قلت بغيظ : إنه مخبول, لا تصدقيه فهو لا يستطيع الابتعاد عنك ولا عن نور يوما واحدا
قال شادي بضيق : لم لا تتفهمان تصرفي هذا!!
هناك بيت انهار وجزء من المسئولية يقع على عاتقي, وهناك امرأة هجرها زوجها, وفتاة ضائعة
على أن أعود وأحمل مسئولياتي
قالت : وما دخلي أنا!! تستطيع أن تحل مشكلاتك ولكن لا تهدم هذا البيت
ألم أشجعك وأدفعك كثيرا وألح عليك للسؤال عن أهلك وزيارتهم وتحمل مسئولياتك تجاههم؟!! لم تكن تستمع الى
قال بيأس : لقد كانت البداية خطأ, كل شيء من البداية كان خطأ
وان أردت اصلاح شيء فعلي العودة الى البداية
هتفت بغيظ : ما هذا الجنون الذي تقوله؟!! لا يمكن اعادة الزمن الى الوراء, وماذا عن طفلتك؟ هل ستعيدها هي الأخرى؟ أم ستتخلص منها؟
قال بنفاذ صبر : لم لا يفهمني أحدكما؟ هناك مؤامرة قذرة لهدم هذا البيت
نظر الى زوجته وقال بألم : انهم يبتغونك أنت, أنت هدفهم الأخير ولا يمكن أن أسمح لهم بالوصول اليك
قالت بهدوء : وكيف ستمنعهم؟ بالانفصال؟ بابتعادك عن البيت!!
اذا تكون قد حققت لهم مرادهم
قال باحباط : على أن أجمع شتات نفسي, وأعيد ترتيب حياتي, والأهم أن أبعدهم عنك وعن نور, فأنا.. أنا..
بدا مترددا كثيرا ثم قال : أنا الثغرة الوحيدة لهذا البيت
هتفت بغضب : بل أنت الذي لا يفهم, إن انسحابك وتخليك عن بيتك هو الذي سيحدث ثغرة وما من سيداويها, ستمنحهم الفرصة لتحطيم كل شيء جميل بيننا
قال بألم : صدقيني, أنا أفعل كل هذا من أجل أن أحميك, لم لا تريدين أن تفهمي؟
على أن أبعدهم عنك بكل وسيلة, حتى لو كان الثمن حرماني منك ومن طفلتي
هتفت بغضب : هروبك لن يحميني, ما سيحميني هو تصديك لهم ولخططهم الدنيئة
هتف بانهيار : أنا.. أنا.. أنا عاجز عن حمايتك, لقد اخترقوني, لقد هزموني, لست الشخص الذي يستطيع حمايتك
قالت بهدوء وبثبات كبير : أنا أحبك
صمت مذهولا مصدوما لدقيقة ثم قال : تـ.. تحبينني؟!
قالت بصوت يمتلئ ثقة : نعم أحبك, وأثق بك
ضحك بمرارة شديدة وقال باستنكار ودموعه تبدو جلية في عينيه : أسمعت يا جدي, لقد قالتها أخيرا
التفت اليها وقال باستنكار : الآن!! الآن فقط تقولينها!!
كم قضيت من ليالي أتمنى أن أسمع فيها هذه الكلمة, كم رجوتك أن تقوليها ولو من وراء قلبك, ولو حتى مجاملة حتى لو لم تستشعريها حقيقة, فقط لأتذوق حلاوتها من شفتيك, ولكنك لم تفعلي وتشغلينني بأشياء أخرى
كنت أتألم, ولكني لم أفقد الأمل أبدا أنني سأسمعها يوما ما منك
قالت : في البداية لم أكن أحبك, هذا صحيح, كنت بحاجة لأسباب قوية تجعلني أحبك, صفات حقيقية تجذبني اليك
لم تكن وسامتك تكفي, ولا مالك ولا ثقافتك ولا اللغات التي تحملها
كنت بحاجة لشيء أعمق وأقوى من كل هذا
انه قلبك, روحك الطيبة, حبك لطفلتك وتمسكك بي, حبك لجدك, محاولاتك المستمرة أن تكون انسان خير, سعيك المستمر لتصبح أفضل مما أنت عليه
نعم لم أقولها الا عندما استشعرتها, وأنا الآن أشعر بها من كل قلبي
هتف بغضب : أنت تكذبين, لم تحبينني أبدا, لكنك أردت بقاء هذا الزواج, وفي كل مرة كانت لك أسبابك, في البداية من أجل أسرتك والحفاظ على المحل, والآن لتحفظي لطفلتك أباها واستقرارها العائلي
أعلم أنك تريدين اثنائي عن قراري بأي ثمن, ولكن هذه المرة لن تستطيعي
لقد اتخذت قراري ولن أتراجع عنه أبدا
قالت بهدوء وبصوت ثابت قوي : وأنا سأتصدى لك, ولن أعود الى بيت أبي
قال بدهشة : ماذا!! تلك هي المرة الأولى التي تعصيني فيها
قالت بصوت أعلى : نعم سأتصدى لك ولكل من يحاول هدم بيتي وحرمان طفلتي من أبيها
أكملت بقسوة : تعلم جيدا كم ضحيت من أجل أن يبقى هذا البيت مستقرا, وأن تنعم ابنتي بحياة طبيعية بين أبوين متراحمين
سأتصدى لك بكل قوتي من أجل الدفاع عن حق ابنتي في الحياة
هتف بألم : أنا لا أستحقك, ولا أستحق طفلة مثلها, لا أستحق أن أكون زوجا ولا أبا صالحا
لقد خنتك مع رودي
قالت بهدوء : أعلم
قال بدهشة : تعلمين!! منذ متى؟
قالت : منذ اليوم الأول عندما عدت الينا يوم عقد قران أختك الساعة الثالثة صباحا لتقلنا الى البيت
قد لا تصدقني, ولكني قرأت في وجهك كل ما فعلته, بل والأكثر من هذا كنت أشعر بكل حركاتك وأنت تتسلل من جواري في نفس الليلة وتظنني نائمة لتذهب الى جدك وتفضي اليه بذنبك الذي أثقل كاهلك
كنت صامتا أستمع الى العجب العجاب
تلك الفتاة الشفافة رغم كل ما يبدو عليها من طيبة وتدين وهدوء
الا أنها تدرك كل ما يدور حولها بفطنة عالية, ولم أتكلم وأنا أراها تجادله بمنتهى القوة
لكنه فجأة التفت لي ورماني بنظرات اللوم والاتهام
فهتفت أدافع عن نفسي : لا تنظر الى فلم أخبرها بشيء
قالت هي : نعم, لست بحاجة لأن يخبرني أحد بشيء, فهناك احساس أقوى من اليقين
لم أكن بحاجة لأشاهد صورك وأفلامك أو للإستماع لمكالمات الهاتف ولا المحمول, يكفي أن أقرأه في عينيك وحركاتك
قال هازئا : والآن تقولين أحبك, بعد كل ما عرفتيه؟! أنا لا أصدقك
قالت : بل وأكثر من هذا, أنا أسامحك
قال بانفعال شديد : أنت تثيرين جنوني, ما من امرأة عاقلة تفعل ما تفعلينه
أقول لك خنتك وتقولين بكل بساطة أسامحك بل وأحبك؟! أهذا هو المنطق أهذا هو العقل!!
قالت بقوة : بل هو عين العقل, أن ترى ما يريده عدوك ولا تعطيه الفرصة ليضع يده عليه
كل المؤامرات التي تدور حوالينا هدفها واحد, وهو أن تتركني وتترك هذا البيت وتعود الى ما كنت عليه
كان الجميع وأنا من بينهم يوقن أنك لن تستمر في هذا الزواج, وستعود بسرعة
ولكنك خالفت ظن الجميع واستمر الزواج قائما, بل وعملت كل جهدك لإنجاحه, فألقوا اليك بشباكهم ليوقعوك, وظنوا أنك ستستسلم من أول سقطة
لكنك قاومت,وغلبت رغبتك في الحفاظ على البيت وحبك لي ولطفلتك كل شيء, غلبت حتى النزوة والخطأ الذي وقعت فيه
كان على أن أساعدك بعد أن استشعرت مدى ندمك واحساسك بالذنب
بعد أن أيقنت بمدى تمسكك بي وبطفلتك, لقد شعرت بصدق كم تحبني من قلبك
كان صامتا تماما أمام كلماتها القوية
لقد تأثر بالفعل,وكيف لا وأنا نفسي تأثرت بذلك العقل الكبير
ارتمى على الكرسي ووضع رأسه بين كفيه وقال بيأس : ونسيتي أنك اشترطي أنه لو بلغك عني شيء فسيكون فراقك؟
قالت : ومنذ متى تقام البيوت أو تفض بكلمة من امرأة؟!!
لكنني أخطأت في حقك, أذنبت ذنبا كبيرا لا يمكن أن تغفره أنوثتك ولا حتى روحك الملتزمة دينيا
قالت وهي تضع يدها على كتفه بحنان : وكذلك لن تقبل أنوثتي أن أترك زوجي لإمرأة أخرى
أما روحي الملتزمة دينيا فهي تفرض على أن أسامحك ليغفر لي الله ذنوبي, فمن منا بلا ذنب؟ ومن منا لا يخطئ؟
رفع وجهه اليها وقال بعينين دامعتين : مستحيل, لا يمكن أن أقبل بهذا, لا يمكن أن أدعهم يصلوا اليك, أنت لا تعرفين تامر ولا رودي, تامر لا يمكن ردعه عن شيء يريده
سيجد ألف طريقة وطريقة لينفذ ما في رأسة, خاصة عندما تنضم اليه الحية التي تدعى رودي
قالت بثقة : لا يمكن أن يصلوا الى طالما أنك هنا
قال بيأس : بل هم قادرين على ذلك, أعلم أنهم سيفعلون
لا يمكن أن أسمح بذلك, لا يمكن أن أدعهم يلوثوا براءتك وطهارتك ويجعلونك مثل رانيا أو رشا
قد أتحمل أى عقاب في الدنيا الا هذا
قالت بتأكيد : ومن قال أن هذا سيحدث؟ صدقني, انهم أضعف مما تظن
قال : بل هم قادرين على اختراقي وتحطيمي, ولن أدعهم يحطمونك معي
قالت : صدقني إن ابتعادك يعني أن تفتح أنت لهم ثغرة لينفذوا منها الى هذا البيت
عليك أن تبقى لتحميني وتحمي طفلتك
قال بصوت كسير : أنا آسف, سامحيني, فاطمة أنت طا..
صرخت بعنف قبل أن يكمل : اسكت
وتفجر غضب ذلك الكائن الوديع العاقل الرزين, عندها فقط عرفت معنى جملة (اتق شر الحليم اذا غضب)
لقد واجهته فاطمة بقسوة, واجهته بكل ما كنت أريد أن أقوله وأكثر
صرخت في وجهه : أفق لنفسك, لن أسمح لك بتكرارها ثانية, لن أسمح لك بإكراهي على ما لا أريده, لا أحد يعاملني بهذه الطريقة
لست أمة لك لتقرر مصيري ومصير طفلتي بكلمة في لحظة هزيمة
كن رجلا لمرة وتحمل مسئولياتك, كن رجلا لمرة وواجه موقفا في حياتك بإيجابية
كن رجلا وواجههم وتصدى لهم, أم أنك لا تقدر سوى على الضعفاء!!
لمرة واحدة اصمد أمام مشكلة وحاول أن تحلها
لا تهرب ككل مرة
دعني أراك رجلا أستطيع الاعتماد عليه
حافظ على هذا البيت ودافع عنه كما أستميت أنا في الدفاع عنه
أرني من نفسك رجلا بحق وستجدني أتبعك الى نهاية العالم, بل وأتحمل أقداري معك مهما كانت مؤلمة, صدقني, سأقاتل معك حتى آخر لحظة في عمري
حتى لو لم تكسب حبي, فإياك أن تخسر احترامي
لو حدث هذا فلن أبقي على شيء بيننا, لن أتمسك برجل يلقي بأسرته عند أول مشكلة تواجهه
ابتلع ريقه وقال بعناد هائل : لقد اتخذت قراري, يجب أن ننفصل
أعلم تماما كم يبلغ عناد حفيدي, عقله كالصخر اليابس, وان اتخذ قرارا فمن المستحيل أن يرجع عنه, خاصة اذا جاء هذا القرار بعد تفكير عميق
وشادي أخذ وقتا طويلا في التفكير, طويل للغاية
وفاطمة أيضا تعرف كم يبلغ عناده, ولكم ذاقت منه الأمرين
كانت تعرفه وتفهمه أكثر مني
لذلك فقد صمتت تماما وبدأت تستعيد هدوءها
ثم تكلمت أخيرا بهدوء ولكنه هدوء يحمل ثباتا وعنادا أشد وأقوى
حتى أنني ظننت أن ما بينهما هو صراع ارادات, وأردت أن أعرف ارادة من الأقوى ومن سينفذ كلامه
قالت : أعلم أن القرار بيديك, وأنك ان أردت هدم هذا البيت فستفعل ولن يردعك أحد, ولكني سأقاوم حتى النهاية,ولن أتخلى عن مسئولياتي ولا عن حق ابنتي
وسواء طلقتني أو لم تطلقني فلن أغادر بيتي أبدا, فالشرع يمنحني حق البقاء في بيتي ثلاثة أشهر لحين انتهاء العدة
نهضت من كرسيها وهي تقول : افعل ما تريد, لكنك لن تخرجني من هذا البيت مهما فعلت
كان ينظر اليها مذهولا من تحديها وقوتها وهي تتجه الى غرفتها
أمسكت بذراعه وقلت بخوف : قل لي أنك لست مجنونا الى هذه الدرجة
تكلم, لا يمكنك أن تفعل بها هذا
لم يلتفت الى أو يرد على كلماتي
كان ينظر نحوها ذاهلا عن كل شيء حوله, وصرخ بصوت يائس محطم : فاطمة, أنت طالق
خرست مذهولا من حماقته, وتجمدت هي في مكانها وظهرها لنا
لم تتكلم ولم تصدر عنها أية حركة, وأخذت أنقل بصري بينهما بخوف
كان الأمر أشبه بلوحة حزينة لم تكتمل بعد
أكاد أجن من طيش وجنون حفيدي وأتساءل متى سيتعقل؟
أتكون هذه هي النهاية؟!! ماذا أفعل بهذا الولد وعناده الذي سيقضي عليه وعلينا جميعا
لقد تزوجها في لحظة عناد, والآن يطلقها في لحظة عناد
أخذت أنظر لفاطمة في انتظار ردة فعلها, أنتظر أن تلتفت, أن تصرخ, أن تقول أى شيء لكنها لم تفعل
وبعد دقائق الصمت الطويلة ولحظات السكون الكئيبة , أكملت طريقها الى غرفتها وكأنها لم تسمع شيء, أغلقت الغرفة خلفها بهدوء وشادي واقف كصنم أخرس ينظر الي الباب المغلق بذهول
فما كان مني الا أن صفعته على وجهه صفعة شديدة لأوقظه من غيه وأنا أصرخ : ماذا فعلت أيها المجنون الأحمق؟!! ألا يكفيك ما فعلته بها طوال السنوات الماضية؟!! والآن تختمها بالطلاق!! أأنت انسان ! أأنت بشر مثلنا!! أأنت رجل مسئول عن بيت وامرأة وطفلة!!
ألم تفكر بابنتك أيها المغفل المأفون؟!!
قال بصوت يائس ودموعه تنهمر بغزارة : صدقني أنا أفعل كل هذا من أجلهما
……….
رحل شادي بكل احباطه وانهياره ويأسه
رحل مودعا بنقمتي عليه, وبخيبة الرجاء من زوجته
رحل وترك خلفه سؤال معلق لا يهدأ من طفلته : أين ذهب بابا؟
والرد من فاطمة واحد : ذهب في رحلة عمل
خلاف ذلك لا أسمع لها صوتا في البيت, والأقسى من ذلك أننى أشعر بأن فاطمة قد انكسرت, كسرها زوجها المجنون, وكلما نظرت لها أتألم
حزينة دائما, صامتة في الغالب, ولكم من مرة رأيت احمرار عينيها وتورمهما في الصباح, فأدرك أنها قضت ليلها تبكي
لم أسكت, وبدأت محاولاتي للإصلاح بينهما, فاتصلت بابني وطلبت منه التدخل لحل المشكلة والتحدث الى ابنه
وكعادته تردد وكاد أن يرفض لولا أني قسوت عليه
وبالفعل التقيا بعيدا عن البيت
وبعد اللقاء اتصلت بابني وأدركت مدى الأثر السيء الذي تركه اللقاء فيه
وحكى لي باختصار أنه طلب منه العودة الى بيته, لكن شادي اشترط عليه أن يعود هو الى بيته وزوجته أولا
حاول ابني أن يفهمه أن الوضع مختلف, وأنه لم يعد هناك أية رابطة تربطه بأمه
في حين أن شادي يعشق زوجته وطفلته
لكن شادي تركه ورحل دون أن يصلا الى حل, بل واتهمه بأنه تخلى عن مسئولياته وتركه هو وأخته من البداية, فلا يحق له الآن أن يأتي لينصحه
سبحان الله
ما أشبه الابن بأبيه, لقد عاش ابني مستسلما لمصيره لا يتخذ موقفا جديا في حياته سوى الهروب المستمر, حتى فقد ثقة أولاده وكلمته لديهم
وعندما قرر اتخاذ موقف قوى ما كان منه الا أن نفض يديه من المسئولية والبيت كله وطلق زوجته ورحل
وهذا ما فعله شادي تماما رغم اختلاف الملابسات والأسباب, ورغم أن فاطمة أكدت له أنها مستعدة أن تقاتل معه وتسانده الى آخر نفس
لكن يبدو أن الهروب هو جينات تورث في دماء الأسرة
فعندما أراجع نفسي أجد أنني لم أكن أبا صالحا في كثير من الأوقات
والآن, بمن أتصل وبمن أطلب العون؟
تذكرت..
صديقه وليد, نعم, هو وليد
أعجبني فيه أنه يحب شادي ويريد مصلحته وسعادته
ولأنه صديقه فبالتأكيد سيكون له تأثير قوي عليه
اتصلت به وشرحت له الموقف وطلبت منه التدخل
وذهب وليد اليه, لكنه مع الأسف لم يستطع أن يصل معه الى حل, بل ان شادي ألح عليه أن يطلق رشا
كيف يفكر ذلك الفتى الطائش!! يبدو أنه يحاول بالفعل اعادة كل شيء الى سابق عهده, لكن ما لا يفهمه الغبي أن ذلك مستحيل فعليا
حتى وليد يفهم ذلك, ورفض بشهامة كبيرة أن يطلق رشا
ورغم احساسه ببعض اللين في موقف شادي, لكنه رفض العودة لزوجته ولبيته, فعليه أن يواجه تامر أولا ويوقفه عند حده
لكن وليد أخبرني أن شادي يتألم بعمق وساءت حالته النفسية الى الحضيض, ويستعين على الأرق بالحبوب المنومة, فالكوابيس المزعجة تهاجمه باستمرار
تذكرت الحلم الذي حكاه لي شادي, وكيف أنه يعجز عن انقاذ نفسه من الغرق
خشيت عليه كثيرا, فهو الآن يغرق ولكنه يرفض أن يمد له أحد يد المساعدة
وجدت أن محاولاتي كلها قد باءت بالفشل, كما رأيت أنه لا محل لي في هذا البيت بعد رحيل حفيدي, فجمعت كل متعلقاتي وجهزت حقيبتي ووقفت في الصالة أنتظرها حتى تخرج من غرفتها
وبمجرد أن خرجت ورأت حقيبتي وقفت صامتة وفي عينيها ألف سؤال
صمت تماما, فلم تكن لدي الشجاعة لأواجهها برغبتي في الرحيل
لكنها فهمت ما يحدث, وانفجرت في بكاء عنيف مزع قلبي
لأول مرة أرى تلك المرأة الشجاعة تنهار بهذه الطريقة, يبدو أن طاقة الصبر والاحتمال لديها قد فرغت
أخذت أهدئ من روعها فتماسكت قليلا, ثم قالت لي وهي تنتحب : لماذا يا جدي؟!!
لماذا يتخلى عني الجميع؟ هل أخطأت في شيء؟ هل أسأت اليكم؟
قلت بألم ممزوج بالحنان : حاشاك يا بنتي, يعلم الله أني أحبك أكثر من أولادي
ولكن, بعد رحيل شادي, لم يعد وجودي هنا مناسبا
هتفت بألم : لا يا جدي, الأمر لم ينتهي بعد, لم تنتهي شهور العدة, أنا لازلت زوجته حتى الآن, وأنت ستبقى هنا ولن يتغير أى شيء حتى يقضي الله بيني وبينه
أرجوك يا جدي, لا تحطمني كما حطمني هو
لا أحد سواك يعلم بما حدث حتى الآن, فلم أستطع أن أخبر أبي حتى لا يشتد عليه المرض, أرجوك يا جدي لا تتخلى عني وأنا في تلك المحنة العصيبة
قلت باستسلام : حسنا يا صغيرتي, سأبقى من أجلك ومن أجل صغيرتك
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق