شعر

ثورة الجياع انفجرت.. ولكن بالتقسيط أو بالتنقيط

 

من لا يرى من الغربال .. أعمى .. من لا يسمع صوت الغضب أصم .. من لا يشعر بأوجاع الناس مسطول ..مستهتر..مغمى عليه .

إن من السهل إيقاظ النائم .. ولكن من المستحيل إيقاظ من يدعى النوم .. ونحن في زمن المدعين دينياً وأخلاقياً .. وسياسياً

1 – ( ثورة الجياع قامت واشتعلت ونحن عنها غافلون )

منشأت سياحية تتحطم .. أحداث طائفية تنفجر .. أموال بنوك تسرق .. شركات صرافة تنهب .. طرق رئيسية تقطع .. عائلات قبطية تهجر .. سيارات تحرق .. بيوت تقتحم .. بنات تختطف .. قطارات تقلب.. شوارع تغلق .. إتاوات تتراكم .. مصانع تتوقف .. خدمات تنهار .. ديون تتراكم .. وخزانه عامة أنظف من الصيني بعد غسيله .

كل مظاهر ثورة الجياع تحققت .. ولكن بالتنقيط .. أو بالتقسيط .. خطوة خطوة .. وهو ما يهدد بتخريب مصر من حدود النهر إلي شاطئ البحر .. عاليها واطيها .. كبيرها صغيرها .. ليس فيها سوى القمامة والبطالة والبلطجة والأوبئة.

القطرة أصبحت بحراً .. الورقة أصبحت غابة .. الحبة أصبحت قبة .. الجريمة أصبحت خطيئة .. النميمة أصبحت فضيحة .. والخوف والرعب واليأس والأكتئاب أصبحت سمات مصرية نفسية .. وطنية .. يومية .

ثورة العشوائيات أشتعلت فعلاً .. قامت .. تقدمت .. تفوقت .. ونحن عنها غائبون .. غافلون .. مسطولون .. عاجزون .. أما السبب فهو تشخيص ما يحدث.

السياسيون يتخيلون أن هذه الثورة ستأتي في صورة مظاهرات وهجمات جماعية غاضبة وكاسحة على طريقة الثورة الفرنسية ؟.. فأذا بها تأتي في صورة أحداث فردية متتألية متراكمة لتناسب طبيعة المصرين الكارهة للعمل الجماعى.. والعاجزة عن التجمع .. فلو كان المثقفين فاشلين في السير وراء قيادة يختارونها .. ( فكيف يحقق المحتاجون مثل هذا الترف التنظيمي؟).

أما المسؤولين فيرون ما يحدث أنفلاتاً أمنياً يمكن السيطرة عليه بقبضة حديدية .. قبل الأستجابة للمطالب الأجتماعية وتوفير الخدمات الضرورية وتحقيق المطالب العاجلة.

وهي سذاجة في التفسير .. فالأمن قبل أن يكون إرادة ضابط هو رغبة مواطن .. وغالبية المواطنين من الفقراء لا يريدون الأمن.. فحياتهم أفضل بدونه .. بدون الأمن يسيطر الباعة الجائلون على الشوارع التجارية .. وبدون الأمن يفرض البلطجية سطوتهم وإتاوتهم علي الأغنياء .. وبدون الأمن يشتري المدمنون قطع الحشيش وأقراص الترامادول برخص التراب ( مثلا ) .

وأخطر ما في هذه الثورة أن من لا يحصل فيها علي ما يريد يدمر ما يعترض طريقه .. لو فشل في الحصول على العلاج حطم المستشفى .. ولو لم يأتي قطار ينتظره سارع بقلب القطارات الأخري .. ولو أظلمت حجرته سرق أبراج الكهرباء .. ولو رفضوا علاوته الأستثنائية أغلق المصانع بالضبة والمفتاح .. ولو لم تمتد خطوط المترو إليه أستولى على كابلاته النحاسية ليشل في مكانه .. أن القاعدة الأن ( لو أنهار بيت أبيك خذ منه قالب ) .

(تجاوزات مبارك في 30 سنة تحققت في عشر سنوات )

ومن المثير للدهشة أن صوت المحرومين الغاضبين الساخطين صاخب بالمطالب .. هادر بالشكاوى .. مرتفع بالأمنيات ..ولكانهم حبسوه فى ديوان مظالم لا يصد ولا يرد .. بل أنهم عندما وقفوا على باب القصر الجمهورى ضربوا وصلبوا .. لا سلام .. لا كلام .. ولا طعام .

أما هو فقد منح نفسه كل ما تيسر من أوسمه ونياشين .. وتفرغ للسيطرة على السلطة متناسياً ما سبق أن وجهه هو ودولته العميقة من إنتقادات لفرعونية من سبقوه من رؤساء ..بدأ من حيث أنتهوا .. بل أن ما وقع في سلفه من سلبيات طوال ثلاثين عاماً تجاوزها هو عشر سنوات ( منتهى الإنجاز ) لكن لن يهنأ أو يهدأ باله .. فالشعوب عندما يعضها الجوع لا ينفع معها الدعاء .. فليس لديها ما تخسره .. ولو لم تتعادل في الحياة تعادلت في الموت .. وعندما يتعرض موكبه لأكثر من محاولة أغتيال .. فالعلاج ليس بحبس الجناه .. وأنما بتوفير لقمة خبز وقطرة ماء وفرصة عمل لهم .

أن يأخذ من فمه ويطعمهم .. ويأخذ من بيته ويسكنهم..ويأخذ من وقته ويطمئنهم .

( البلطجة والفاشية لن تسكت كلمات الحرية )

فى الوقت نفسه بدأت محاولات أشد وأسواء من عصابات ومليشيات مساندة للسلطة في معاقبة كل صاحب رأي يرفض أن يكون سفرجياً في وزارة إعلامة .

أن الناس حينما تفتح قلوبها وأبوابها للكلمة الصادقة فهذا يعني أنها تضيف إلي حياتهم شيئاً وتضيف إلي أعمالهم شيئاً.

أن الكلمة المحترمة التي لا تغير أيام الناس ولا تفتح لهم طريقاً ولا تنقل أصواتهم أو تترجم إحتياجاتهم تبقى دائماً خارج الأبواب.

لقد كان من يدعون البطولة الأن يرقدون تحت اللحاف خائفين .. يرتعشون .. ينتظرون تعليمات أمن الدولة كى يأكلوا أو يشربوا .. أو يدخلوا الحمام . بينما كنا نحن ندعم حرية الصحافة بفتح كل ملفات فساد النظام السابق .. لا توجد قضية واحدة تحولت للقضاء بعد الثورة لم نسبق بكشفها .. أو وضع يدنا على مستناداتها .. ودفعنا ثمناً غالياً .. مرمطه فى النيابات والمحاكم .. غرامات مالية كسرت ظهرنا .. وتلفيق قضايا أخلاقيه لتحطيم السمعة نجونا منها بمعجزة سماوية.

بل أننا وقفنا بجانب الثورة ونظام مبارك على قيد الحياة .. لم نتردد ولم نتأخر عن الدعم والمسانده .. ولم نطمئن للفوز قبل أن نتكلم  ( كما فعل غيرنا ) وتصورنا أن الوقت قد حان لنجني ثمار الحرية التي تعبنا في خلقها وتشكيلها وتنميتها ..تصورنا أن الذين عانوا من السجون هم الأقدر على رعايتها .. لكننا وجدنا القسوة السياسية تتضاعف شراستها ببلطجة أجرامية .. لنبدأ الكفاح مرة أخرى من تحت الصفر .. وسط تهديدات لحياتنا .. وتحدِى للأقلامنا .. ومطاردة لسمعتنا .

والحقيقة أننا لم نفاجأ بما حدث .. فلو كان من الصعب تغير جلد رجل أسود إلي جلد رجل أبيض .. فمن الصعب عليهم أن ينقلبوا من نازيين إلي مبدعين .. من الصعب علي من يكرهون القصيدة واللوحة والسمفونية واللقطة السينمائية وبرامج الرأى الفضائية أن يستقبلوا الكلمة بإحدى وعشرين طلقة .. ويمدوا تحت أقدامها سجادة حمراء .. ويصطف لها حرس الشرف .. هذا مستنقع من الوهم الكبير سقط فيه بعض الأبرياء الذين يأملون فيهم خيراً.. فكانوا أول من يدفعون ثمن سذاجتهم بالضرب والأعتقال وتحطيم ممتلكاتهم ومصادرتها .

أن هؤلاء لا يقبلون بمن هم خارجهم .. لا يأمنون لمن لم ينضم أليهم .. لا يثقون في من يمد الجسور نحوهم .. ربما أستغلوهم واستفادوا منهم .. لكنهم لن يترددوا في أكلهم وطحنهم ومضغهم ثم بصقهم في أقرب مقلب قمامة .. وأنظروا حولنا لتروا ما فعلوه بسياسيين وقفوا إلي جوارهم .. وإعلاميين تحمسوا لهم .

فتاريخيا ليس هناك أمل في توقيع اتفاقية جنتلمان بين السلطة والكلمة .. فالحاكم لا يقبل بسلطة زمنيه غير سلطته .. والكاتب لا يقبل بسلطة غير سلطة الحقيقة .. لذلك تبدوا الكتابة في هذا الزمن مهمة صعبة .. لكن لا مفر من تنفيذها .. فأمة بلا حرية أمة في ظلام دائم .. لا تبدده كل محطات الكهرباء مهما كانت طاقتها .

أن السلطة القائمة تريد أن نقبل منها كل تجاوزاتها وتصرفاتها دون أن نفتح أفواهنا أو أقلامنا .. وهي تضغط بكل وسائل العنف والتشهير كى يكتفي الصحفيون بالكتابة في التدبير المنزلي .. وأن يكتفي الاعلاميون بالحديث على طريقة برامج أطفال أبله فضيلة .. وأن يجيد الأباء التعبيربمسح الجوخ .. وغسل قدمى السلطان بماء الورد وماء الكرامة .

لكن الكلمة المطبوعة والمنطوقة والمرسومة والمصورة ستظل رغم الخوازيق والأسلاك الكهربائية والكلاب البوليسية وأجهزة التصنت وزوار الفجر وبلطجة مدينة الأنتاج الأعلامى والملشيات المسلحة .

( لولا التحريض على النظام السابق ما جاء النظام الحالى )

وجد غالبية المصريين أنفسهم متورطين في السياسة التي كانوا يترفعون عنها ويتفاخرون بمقاطعتها .. أن وصول هذا الرجل للحكم أفزعهم وأربكهم وأجبراهم على تنفس هواء خالي من الأكسجين غصباً عنهم .

في كل يتسأل الناس هل ضاع البلد ؟ هل هناك أمل ؟ هل سيقف الجيش مكتوف الأيدى ؟

ما الذي يمكن ان نفعله؟ هل نهاجر أم نقاوم ؟ .. فلو كان الحاكم قد حصل على نصف اصوات الناخبين وربع أصوات المصريين فأن الغالبية العظمى ليست معه .. لكن هذه الغالبية ليست منظمة وتبحث عن قيادة تمشي وراءها .. وتتكتل خلفها .. وهذا هو المأزق الحقيقي الذي يواجه المعارضة الشعبية الهائلة والمكتومة .. التى تلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية

أن كل الشخصيات التى خرجت للسطح فشلت في أن تتصدر المشهد .. وبدت مضطرة .. متنافرة .. منتفخة الذات .. عاجزة عن الأتلاف تاركة الجماهير التى وثقت فيها ورفعتها علي الأعناق لمصير أسود مجهول .. سينتهي بسطوه فاشية تؤدب بعصابات ممسوحة العقل كل من يتكلم أو يهمس أو يفكر في الرفض ولوكان حقاً شرعياً بحكم الديمقراطية .

أن قطار المعارضة الطويل بلا قائد ولا ناظر محطة .. ولا مفتش للتذاكر .. والركاب جميعاً أما مهاجرون بعيداً عن السلطة أو مهجرون منها .. وهم يحملون معهم أطفالهم وأحزانهم وأحلامهم .. ويسافرون من محطة تحترق إلى محطة في طريقها للأحتراق .

لقد أنتهى العصر الذى يعتبر المعارضة جريمة سياسية تهدد أمن الدولة .. فالنظام الديمقراطى الذي جاء بعبد الفتاح السيسى للرئاسة .. ليس من حقة مطاردة الخارجين عليه .. الرافضين له .. ليس من حقه كتم أصواتهم أو منع أنشطتهم

.. بل عليه قبولهم ودعمهم .. فالحاكم القوى يقبل بمعارضة قوية .. ولولا التظاهر والغضب على النظام السابق ما جاء النظام الحالى .. فالديمقراطية ليست سيارة ليموزين توصلنا للقصر الرئاسى ثم نحرقها كى لا يركبها غيرنا .. ليست سلماً نصعد به إلي قمة السلطة ثم نكسره كي لا يستعمله غيرنا.. ولو حدث ذلك ( وأظن أنه سيحدث ) فأننا نكون قد أسقطنا نظاماً ديكتاتورياً لنأتي بنظام مثله .

لقد خلقنا الله متمردين علي أنفسنا ووأقعنا وتاريخنا وجلدنا وحكامنا لنغير ولنتغير .. فأذا بقيت الدنيا علي ما هي عليه بأفكارها العتيقة وسلطاتها العنصرية وسطوتها الطاغية .. لتحول كل ما نقوله وما نحلم به وما نصر عليه إلي كلام فارغ لا يزيد عما نكتبه علي شواهد القبور ( قبورنا )

رؤوف علوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق