مقالات
حتى الموت بالكتابة أروضه
كتب – رؤوف علواني
(( لماذا أكتب ؟)– و( لماذا أستمر في الكتابة ؟ )–( وما جدوي الكتابة ؟ )– ( وإلى متى سأظل متشبثاً بالقلم؟ ) – ( وماذا تأخذه الكتابة وماذا تعطيه ؟ ) هذه تساؤلات تجتاحنى من حين لأخر – ولكنها اليوم اشد إلحاحاً وإصراراً ( ولها كل الحق ) فالعالم يبدو أكثر من أى وقت مضى أنه يحتاج للأسلحة لا الأقلام يحتاج إلى القوة لا الكلمات – يسعده شهداء الألغام لا شهداء الغرام – يزرع الفتن بدلاً من زراعة القمح – يتفنن في صناعة القنابل لا فى السلام – عالم يجهل أبجدية الكتابة لا يقرأ إلا أبجدية العنف .
لماذا أكتب ؟ ولماذا أستمر في الكتابة في أزمنة الدم وتكفين النساء وهن أحياء ؟ ما جدوى الكتابة في عصر الإستعمار الإلكترونى للعقول والمشاعر والأوطان ؟ أين يذهب الكتاب والشعراء في عالم يكتظ بالملايين الذين يريدون بيتاً حقيقاً وليس بيت شعر ؟ – رغم وجاهة ومنطقية تساؤلاتى عن جدوي الكتابة – فأننى سأحمل لها الأجابة المتكررة نفسها – إنما أكتب وأستمر في الكتابة لأنها هى التى أختارتنى ولست أنا الذى أخترتها مصيري وحياتى وقدرى.
وما إنصياعى لأختيارها إلا محاولة لمعرفة سبب هذا الأختيار .
وكلما تذكرت البداية تأكدت أكثر وأكثر أنه لا مهرب لى من سلطة الكتابة ولا مفر من ديكتاتورية القلم رغم نفورى من كل أنواع السلطة و كراهيتى لكل أنماط الديكتاتورية – كلما تذكرت البداية يزداد يقينى أننى على درب الكتابة (مسير ) لا ( مخير ) ورغم ذلك أشعر بأننى مسؤل عن كل حرف أسطره .
لماذا أكتب ؟ – كنت طفل صغير حينما أمسكت القلم لأول مرة – كانت سطورى الأولى تعبيراً عن دهشتى – فما هذا البيت الغريب الذى أسكن بين جدرانه الأربعة ؟ فأنا أعيش في بيت يتكرر فيه منظر شاذ كل يوم لا أراه في أى أسرة حولى –أرى أمى تكتب حين أزور أحد أصدقائى أو أقربائى أرى ( أمه تطبخ ) – شئ أخر أثار دهشتى ( ليس في بيتنا رجل ) أو ( أب ) مثل البيوت التى أدخلها – وبشكل ما أرتبط عندى منذ وقت مبكر وبصورة غير مكتملة أن بيتاً بلا رجل أو أب يساوى شاب يكتب – بيت فيه رجل أو أب يساوى إمرأة تطبخ .
شئ أخر أدهشنى في البيت الذى أسكنه – أننى طفل لا يتعرض للأوامر التى يتلقاها الأطفال – كنت أنا الذى يحدد متى يلعب ومتى يذاكر – متى ينام و متى يصحو .
والنتيجة أننى عشت طفولة سعيدة نابعة من حريتى وغياب أى سلطة في البيت وهو الشئ الذى يفقده الأطفال ( ذكوراً وإناث ) كنت أنظر إلى بقية الأطفال بعين الشفقة – كنت أشعر أننى لست منهم وأنهم ينتمون إلى عالم أخر غير عالمى – وحينما كبرت أدركت ان هذا الشعور بـ ( الغربة ) و( الانتماء ) لهو ضرورة من ضرورات الكتابة .
وأرتبط عندى منذ وقت مبكر أن غياب الرجل أو الأب في البيت معناه طفولة حرة وسعيدة – بيت بلا رجل أو أب يساوى طفل حر سعيد .
وهكذا أكتملت الصورة في وجدانى وفكرى منذ الصغر – بيت بلا رجل أو أب يعنى الكتابة والحرية والسعادة – بيت فيه رجل أو أب يعنى الطبيخ والخضوع والتعاسة .
ثم أنتقلت سطورى من الدهشة إلى الحيرة – ماذا أفعل في الحياة ؟ وما الملامح التى أواجة بها العالم ؟ – في الأدراج شهادة جامعة عين شمس ( كلية الإقتصاد والعلوم السياسية – وشهادة الماجستير ) وفي الوقت نفسه لا أتصور نفسي كاتباً .
أولاً تساءلت إهل أمتلك الموهبة ؟ ثانياً مع المتاعب والمشكلات التى تواجهها أمي بسبب ما تكتب – كنت أقول ( يكفى كاتبة واحدة في الأسرة ) وإن أمى تكتب لنا نحن الأثنين .
لم أكن أريد أن أعيش حياة صعبة – فالكتابة كما وعيت عليها من أمي ( عمل متواصل متقن – وإلتزام لا يعرف التكاسل ) وقراءة منتظمة – ومعارك مع دور النشر وصدام مستمر مع كل ماتفرزه منظومة القهر السياسي والتسلط الديني وميوعة الفكر وإستئناس الإبداع – كنت أريد أن استمتع بحياتى مردداً ( لست محارباً مثل أمي ) .
ثم أكتشفت أن رغبة الكتابة كانت كامنة طوال الوقت – ولم أختر الكتابة وإنما الكتابة هى التى أختارتنى – وأكتشفت أيضاً أن بداخلى محارباً – فقط لم أكن أدرى ما معركتى .
عام 1987 هو تاريخ أصدار أول مؤلفاتى مجموعة من القصص القصيرة التى كتب لها المقدمة ( يوسف أدريس ) وحتى الأن لم أتوقف عن الكتابة حتى أصبح لدى 13 كتاباً بين القصة و المقال والقصائد – أصبحت أرى الكون كله تجربة شهية للكتابة وفي تنويعاته الرحبة الثرية مادة موحية للابداع .
كل هذا أتذكره ويمر سريعاً أمامى مثل التنفس – ربما أكتب لأن الكتابة تصنع وجهى و ترسم ملامحى – أكتب ربما لأقول أننى بعد خلع الجسد الفانى مازالت لى بقية من كلمات وغناء وتساؤلات وبكاء .
أكتب لأننى أشعر أن الكتابة هي فضيلتى الوحيدة في عالم يذهو بخطاياه التى تحجب عنى الشمس والهواء .
بالكتابة أصبح فوق العالم – لا أخاف أحداً أو شيئاً – حتى الموت أروضه فيذهب يعد لى القهوة بينما أواصل كتابة القصيدة – عناقى الحميم بالقلم هو ما يجعل ( رجولتي ) حقيقة مثبتة موثقة لا أشك فيها – وليس عناقى الحميم بالمرأة .
منذ بدأت الكتابة وأنا منشغل ومؤرق بالتساؤل المحير : كيف يحررنى فعل الكتابة كأنسان ورجل وكاتب ؟
كأنسان أريد التحرر من أشكال الحياة المتوارثة التى تركن إلى الأستقرار وتعادى الدهشة والمخاطرة – وكرجل أريد التحرر من كتالوج الذكورة المعتق الذى يطالبنى دائماً بالأبتسام والتجمل والسعى المتواصل لإرضاء الجميع – والكاتب والشاعر داخلى يريد التحرر من قواعد النقد السلفية .
إن تحرير الذات ( في رأيي ) هو تجربة فردية محضة ( تماماً كالموت ) فكما أن أحداً لا يمكنه أن ينيب عن أخر في الموت – لا أحد يمكنه أن ينوب عن أحد في مسألة التحرر .
لست أؤمن بتحرير الذات من خلال الأحزاب والتنظيمات السياسية ( أو أى عمل جماعى أخر ) الثورة كما أفهمها هى نتاج تطور وصراع لحركة داخلية في عقل ووجدان الأنسان تجاه العالم وتجاه ذاته – وليس الإطاحة بسلطة خارجية والإتيان بأخرى جديدة .
انا بالطبع لا أقلل من العمل الجماعى الساعى نحو الحرية – لكننى أضع المسؤلية الأولى والبعد الأكبر على الفرد – وهذا هو الضمان الوحيد لكى لا تنتكس الثورات أو تتوقف في منتصف الطريق – أو تعيد إنتاج القهر القديم .
أنا أكتب إذن لأن الكتاب هى سلاحى الوحيد الذى أملكه وأؤمن بة لكى أحرر ذاتى .
وأكتشفت بمرور الوقت أن تحررى بالكتابة مرهون بأن ( أفعل الكتابة ) – لا أكتبها فقط وحينما أفعل الكتابة فأننى ( شئت أو أبيت ) أحدث تغيراً وأضع فارقاً في ما حولى من أشياء الكلمات قولاً وفعلاً تدعو الأخرين لمشاركتى كيف أتذوق الحياة وكيف أرى العالم : تحويل الكتابة من الأبجدية إلى تفاصيل واقعية أعيشها .
كل يوم يجعل ( حياتى ) بالضرورة هى ( أجمل كتبى ) و ( أروع قصائدى ) .
وفي هذا الزمن الذى تكتنفه الأخطار وتعم فيه الفوضى وتتهاوى أجمل المعانى تحت حصار الدم – يصبح من الضرورى أن أجد ركناً واحداً أطمئن إلية ( يمنحنى الدفء ) والحنان – ويواسينى بأصدق العزاء – وهذا هو وطنى وجسدى وبيتى – وأقصد بة ( ورقة الكتابة ).
أكتب وأواصل التشبت بالقلم لأن الكتابة تغمرنى وتملؤنى بفيض من لذة طاغية تغرق حساسيتى المفرطة لمظاهر العبث واللاجدوى – وتخفف قليلاً من ( الألم ) الساكن قلبى .
خذوا
المال والبنون والجاه والسلطان
خذوا كل الأشياء
وأتركونى في خلوتى
أمتطى الخيال
وأكتب ما أشاء