مقالات

الحكمة من خلق الإنسان (2)

بقلم الباحث محمد سعيد أبوالنصر
موقف المستشرقين من نظرة الإسلام للإنسان :
ذهب بعض المستشرقين إلى أن الإسلام عامل الإنسان بمهانة ، ونظر إليه بدونية مخزية وسطحية وضيعة قال صاحب « حضارة الإسلام »” الإسلام منذ بَدَاءَته لم يعترف للإنسان إلا بقليل من التقدير، وينزع القرآن إلى إقناعه بمهانة أصله الجسدي؛ فيصف خلق الفرد وتكوينه تفصيلاً: بقوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}[ سورة المؤمنون، الآيات: ١٢ – ١٤] فليس للإنسان أي فخر في بداياته؛ فهو ليس مكوناً من مادة مهينة فحسب؛ بل هو ضعيف عديم الحس ساعة ينحدر إلى هذه الحياة – ولا يحفظه في وجوده المحفوف بالخطر إلَّا إرادة الله وهو غرض لسهام الأمراض والآلام، وهو يكابد الجوع والعطش شاء أم لم يشأ، وهو يريد المعرفة ولكن الجهل نصيبه، وهو يريد أن يتذكر ولكنه ينسى، وإنه ليدبر ما يدبر من خطط الفكاك ولا يبلغ قط حد الاطمئنان على الحياة أو المركز”. ولو أنصف المؤلف لاستشهد بما قاله الله عن الإنسان وتكريم الله إياه بقوله في كتابه العزيز قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [ سورة الإسراء، الآية ٧٠] والله أمر الملائكة أن يسجدوا له قال تعالى { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [ سورة البقرة، الآية : ٣٤] فالإنسان له قيمته عند الله وخصائصه الروحية العالية، والله قد وصف العباد بأنهم من الممكن أن يتقربوا إليه سبحانه وذلك بالتخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته ، وذلك باكتساب محامد الصفات التي هي من الصفات الإلهية . . من العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق، والنصيحة لهم، وإرشادهم إلى الحق ومنعهم من الباطل، إلى غير ذلك من مكارم الشريعة، فكل ذلك يقرب إلى الله تعالى، لا بمعنى طلب القرب بالمكان بل بالصفات، وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب – من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي – ما أخبر الله عنها بأنها من أمور الغيب كالروح قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}[ سورة الإسراء، الآية : ٨٥] فالروح أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق. وأوضح من ذلك قوله تعالى { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} [ سورة الحجر، الآية: ٢٩]ولذلك أسجَد له ملائكته.” إن الآية التي استدل بها المستشرق – والتي بينت أطوار خلق الإنسان من نطفة فعلقة فمضغة الخ – لا تهدف إلى إقناع الإنسان بمهانة أصله الجسدي -كما يقول – وإنما تهدف هي وما يماثلها من آيات إلى الرد على قوم أنكروا الآخرة والبعث بعد الموت، واستبعدوا أن يحيا الإنسان بعد ما رم وبلى، فجاءت هذه الآيات تلفت أنظار منكري النشأة الأخرى إلى النشأة الأولى، وتنبه العقول الغافلة إلى قدرة الله الكبير الذي خلق الإنسان من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة، ولنقرأ قوله تعالى {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)} [ سورة مريم، الآيتان : ٦٦ – ٦٧ ]
ويقول سبحانه { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [ سورة يس، الآيات : ٧٧ – ٧٩].فهل يفهم منصف من سياق هذه الآيات تحقير الإنسان؟ وأن الإسلام لا يعترف له إلا بقليل من التقدير؟. لقد عنى القرآن بالحديث عن الإنسان في عشرات من آياته، وعشرات من سوره، وحسبنا أن أول آيات الوحي الإلهي استقبله قلب رسول الله – هي خمس آيات – لم تغفل شأن الإنسان، وعلاقته بربه: علاقة الخلق والإيجاد، وعلاقة التعليم والهداية، واختارت الآيات لفظ ” الرب ” لما يشعر به من التربية والرعاية والترقية في مدارج الكمال
قال تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [ سورة العلق، الآيات : ١ – ٥]
لقد بين القرآن في كثير من آياته علاقة الإنسان بالله، وهي علاقة القرب القريب، الذي حطم أسطورة الوسطاء والسماسرة المرتزقين بالأديان
قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ سورة ق، الآية: ١٦ ]
وقال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } [ سورة البقرة، الآية: ١٨٦ ]
وقال تعالى : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [ سورة البقرة، الآية: ١١٥ ]
وقال تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [ سورة الحديد، الآية: ٤] وبيّن القرآن مكانة الإنسان عند العوالم الروحية العلوية، وهي مكانة اشرأبت إليها أعناق الملائكة، وتطاولت إليها نفوسهم فما بلغوها: مكانة خليفة الله في الأرض
وقال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [ سورة البقرة، الآية: ٣٠ ] مكانة من علمه الله الأسماء كلها، وأمر ملائكته بالسجود له تحية وإجلالاً
وقال تعالى{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ سورة ص، الآيات : ٧١ – ٧٤] وكانت عاقبة عدو الإنسان الذي تمرد على أمر ربه بتحيته والسجود له هي اللعنة والطرد الأبدي
وقال تعالى { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)}
[ سورة ص، الآيتان : ٧٧ – ٧٨ ] وبين القرآن مركز الإنسان في هذا الكون المادي العريض، وهو مركز السيد المتصرف، الذي سخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً
وقال تعالى{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [ سورة إبراهيم، الآيات : ٣٢ – ٣٤].وما الذي بوأ الإنسان هذه المكانة في الكون – على ما فيه من أجرام ضخام – إنه استعداده لحمل الأمانة الكبرى والمسئولية والتكليف .. تلك المسئولية التي صورها القرآن تصويراً رائعاً فقال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [ سورة الأحزاب، الآية: ٧٢] تلك المسئولية التي جعلت مصير كل إنسان بيده إما إلى جنة وإما إلى نار قال تعالى {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} [القيامة: 14]
وقال تعالى {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15] ذلك بعض ما ذكره القرآن عن مكانة الإنسان، والحكمة من خلقه وإن فيه لغناء لمن أراد الإنصاف، وحسب الإنسان شرفاً هذا النداء المباشر من الله إليه بعنوان الإنسانية قال جل وعلا { يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [ سورة الانفطار، الآيات : ٦ – ٨] { يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أيْ: أيُّ شيءٍ خدعك برك الحليم الكريم، حتى عصيته وتجرأت على مخالفة أمره، مع إِحسانه إِليك وعطفه عليك؟ وهذا توبيخ وعتاب كأنه قال: كيف قابلتَ إِحسان ربك بالعصيان، ورأفته بك بالتمرد والطغيان {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] ؟ ثم عدَّد نعمه عليه فقال {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} أي الذي أوجدك من العدم، فجعلك سوياً سالم الأعضاء، تسمع وتعقل وتبصر {فَعَدَلَكَ} أي جعلك معتدل القامة منتصباً في أحسن الهيئات والأشكال {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} أي ركبك في أي صورة شاءها واختارها لك من الصور الحسنة العجيبة ولم يجعل في الشكل كالبهيمة كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق