مقالات

قصة قصيرة: أربعمائة وخمسون

ربى اليوسف – لبنان

الآسر والداسر ما زلت أردّد نفس الكلمتَين من مقدّمة المترجمة في كتاب روجيه كايوا عن الإنسان والمقدّس، قبل أنْ أصطدم بالعامود الكهربائي، المائل في طريقة عشوائية على رأسي! سلِمت هذه المرّة واصطدمَ أنفي في العامود، لم يقع العامودُ على رأسي! هذه حالُ الشّوارع في بلادنا، أرفعُ رأسي، متخايلًا أنّني أرفعُ رأسَ اللّمبة المنكسرة، الّتي كسرها ابن الجيران أمس عن عمد. هذه لعبته المفضّلة، أو على الأحرى هذه لعبة الأولاد الوحيدة في بلادنا أيضًا، وأيضًا رمي النّفايات، في طريقة عشوائية، حتى يخيّل إلى أحد المارّة أنّ برميل النّفايات يُشهر أحد أسلحته أو ألسنته في وجهه. – ضُب لسانك! لكن لحظة، على سيرة النّفايات، ماذا تفعل تلك المرأة الّتي كلّما انحنتْ يظهر الهلال على شكل قوسٍ في ظهرها، امرأةٌ تجرُّ عباءَتها السوداءَ خطوةً خطوة. الدّم الّذي يقطرُ من قدمها، يُعيدني إلى فكرة دمِ العذارى لدى الرومان وبستان “آنا بيرينا”. لكن لا مكان هنا لدودةِ خُضار واحدة، لا خضار لا دُمّل، لا جَرَب، لا أمراض جلديّة، لا بَرَص. الرّجل الأبرصُ الّذي يمرّ في جانبها من دون أن يلتفتْ إلى قدمها التي انغرست في زجاجة “الكوكاكولا”. الأرض، الدّبًق، الأوراق، بقايا الطعام، علب السردين والتونة، أحساك السمك. سمك، دجاج ربما، يا إلهي تذكرت، سوف أعزم “نخلة” على وجبة سمك. عدنا: الطّماطم، شراب الطّماطم، الرّائحة، الرّائحة، الرّائحة. أضعُ يدي على أنفي، الرائحة من جديد، كيف باستطاعتها أنْ تتحمل الرّائحة، ماذا تفعل هنا في عزّ دين الشّمس، امرأةٌ من عمر أمّي “نخلة”، يسمونها نخلة نسبةً لطولها. ما طول الفترة الّتي تقضيها في الشّمس هذه المرأة الأربعينيّة أو الخمسينيّة؟! ملامحها توحي أنّها أربعينية، رغم أنّ التّجاعيد تأكل قطعةً من وجهها الأسود أيضًا مثل فحم نرجيلة لم يشتعل بعد! عندما يشتعل قرص الشمس، يكاد العرق يغطّي كامل وجهها، ومثل صيّاد من “اللابلانديين”، تغرس يدها في برميل النّفايات، أصابعها العشرة، كذلك الصياد لا يريد أنْ يعود من دون دب هي لا تريد العودة من دون، من دون! يا إلهي، كم أنت أحمق كنتُ أظنّها تبحث عن عظمة لم يجهز أصحابها على الدجاج بين نتوءاتها، عن برتقالة مقشرة تشرب ما يبلّ ريقها. شفّتُها الّتي ترتمي في أحضان صحراء الخليج، الجّافة المتشقّقة، كأنها لم تشرب منذ زمن، لحظات وكنتُ أشبِّهها للأفارقة على ضفاف بحيرة ملاوي/ نياسا. تريد أن تشرب، تريد أن تأكل تريد أن تلتقط لعبة، لعبة. كم أنت أخرق، تأخرت على نخلة من أجل لعبة، لعبة! أين تيت- ليف يؤرخ تاريخ هذه المرأة العجيبة؟! أليس هو من كتب تاريخ روما؟! – “يجي يفرجينا شطارتو هلّق” لم تكن هذه المرة الأولى، كلّ يوم أتسمّر أمامها، مثل من يتسمّر أمام لوحةٍ عظيمة في إحدى المتاحف الفنّيّة، وكلّ يوم تبحث بين النّفايات عن دمية جديدة. كلّ يوم كلّ يوم تعامل الدمى على طريقة حجارة ( الشورينغا Churingas )، الدمية مقدّسة! الفرحة في عيونها الخضراء، على سمارها، لوحة الضحكة، يا إلهي من الضحكة! – يا خضر شو باك انتا مزوج؟ صح وعندك تلات ولاد؟ صح ومرتك إزا بتعرف بتقبرك؟ صح؟ هيي أكبر منك؟ صح؟ من عمر إمك؟ صح بدك تتزوجها؟ لا أضرب نفسي كف يمين، كف شمال، في كل مرة أكلم نفسي، أتمنى أن يعود ” جيرو Giru” في الزّمن ويبطل مفعول السِّحر … ليس سحر امرأةٍ عادية، لكنّ سحرَ امرأة تحكي القصص. لا يمكن أن يعيش الرجل من دون سحر، والقصص سحرُ لا ينتهي. ما سحرها هي؟ ما قصّتها؟ ما علاقتها مع الدّمى؟ لمَ كل يوم، كل يوم، لِمَ؟! هل كلّ هذه الدّمى من أجل أطفالها؟ لم يشبع أطفالها من الدمى. هل هي مجنونة، مريضة نفسية، مهووسة، هل هي مهووسة؟! دمية وراء دمية، دمية وراء دمية. دمية وراء دمية! هذه المرّة، كنتُ أردّد نفس الجملة قبل أن اصطدم بها، وليس “آسر” و”داسر”، قبل أن أثور مثل ثور من عشيرة البيزون وأصرخ في وجهها. – شو ما بتقشعي قدامك، كيف بدو يلعب ابني عالـ tablet، بعدما انكسرت من ورا ضهرك لم أعرف ماذا قلت؟ ماذا فعلت؟ لم أهنها، لم أجرحها، لم أتلفظ بكلمات بذيئة يا رابليه! لم تبكي الآن مثل الطفل؟ لم تبكين؟! لم لا تسمحين أنْ أقبل الدّم في قدمك من أجل أن أتطهر. كانت كلّ هذه الدمى الّتي تجمعها من أجل دمية واحدة لم يستطع أهلها شراؤها من أجلها وهي صغيرة. كانت مهووسةً نعم. تقول: جمعت حتى الآن، أربعمائة وخمسين دمية، على عدد عشائر شعوب “الداياك”… في الخمسين من العمر، مهووسة في الدمى. كانت مهووسة نعم. أنت ما هوسك؟! ~ رپى اليوسف ~

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق